Wednesday, January 09, 2013

إنشاء مجلس قومى للتنمية البشرية


المتابع للشأن السياسى والتنمية المجتمعية مثلى يجد أن الهند والصين ودول جنوب شرق آسيا لم تحقق الطفرة الإقتصادية والإجتماعية التى حققتها سوى بالإهتمام بتحسين جودة الناس فى تلك البلدان وتنمية مهاراتهم الفنية ليس فقط فى التخصصات المختلفة التى تحتاجها الدولة لكى تنهض ويزدهر اقتصادها ويصبح لها "ميزة تنافسية" تجعلها لاتكتفى بالتواجد على المسرح الدولى تنافس على جزء من اقتصاديات السوق، وإنما الجدارات الشخصية التى تنعكس على سلوك الفرد فى التزامه وانتمائه وجودة عمله ومشاركته بالتفكير وإطلاق ملكاته ومواهبه .. ترجمت تلك الدول بحق معنى الإستثمار فى رأس المال البشرى إلى واقع فانعكس ذلك على نموها الإقتصادى وعلى قدرتها التنافسية وعلى غزوها لبلاد الدنيا شرقا وغربا بمنتجاتها وعمالتها وحتى تقدمها التكنولوجى على بلدان سبقتها بعشرات السنين مثل الولايات المتحدة فى تكنولوجيا المعلومات حتى باتت تعتمد فى أكثر من 80% من صناعة التكنولوجيا على تلك البلدان وبالذات الهند التى أصبح إسم ولاية "بنجالور" فيها اسما متداولا فى كل أروقة الشركات العملاقة فى صناعة تكنولوجيا المعلومات فى أمريكا.
فى مصر أهملنا "صناعة تطوير البشر" وبدا الأمر فى بعض مراحل تاريخنا الحديث كما لو كان هناك إهمال منهجى متعمد لإفقار الناس والحفاظ على جهلهم وأميتهم حتى يسهل قيادهم ولاينشغلوا بشيئ سوى لقمة العيش وإنهاك قواهم وطاقاتهم فى الجرى بلا بلا توقف لالتقاط الأنفاس لتوفير الحد الأدنى من مستوى المعيشة دون الإلتفات لشيئ آخر وجعل ذلك هدفا أسمى للحياة يشعرهم بالسعادة كل ليلة ماداموا قد نجحوا فى توفير قوت اليوم .. واقع مرير عشناه ولازلنا وآن له أن يتغير بعد الثورة التى ظهر فيها المعدن الأصيل لهذا الشعب وجينات الحضارة التى بداخله وإرادة التوحد عند الخطر .. ولاشك عندى الآن من أن تلك الصفات كانت وراء التجريف الممنهج فى عهد مبارك ولأكثر من ثلاثين عاما للشخصية المصرية ومعها موارد الدولة ومصادر قوتها، ولعله أيضا وراء يقينى بأن من يريد أن يحكم هذا الشعب منفردا أو بإملاء الإرادة أو بالقهر سوف يبقى الحال على ماهو عليه لمواجهة التهديد الذى يمثله شعب واع بحقوقه ولديه العلم والإرادة للتخطيط لانتزاعها.. ولعل ذلك أيضا يفسر كيف تلعب الكتل الإنتخابية من شعب هذا حال أكثر من 80% من مواطنيه فى ترجيح كفة من يجيد الوصول إلى تلك الكتل ويلتصق بها ويلبى احتياجاتها البسيطة ويحقق أحلامها التى لاتتجاوز أبسط حقوق الإنسان فى معيشة كريمة لاتمتهن فيها كرامته، كما يفسر كيف تحولت مصر إلى معتقل كبير لكل صاحب رأى حر أو معارض شريف من النخبة يمثل تهديدا للحاكم ويدعو إلى الخروج عليه.
إنعكس كل ذلك على سلوك المصريين وتغيرت قيم كثيرة كانت تحفظ لهذا المجتمع تماسكه ووحدته وضعفت مناعة الناس لتقبل الإختلاف وتحولت مصر إلى ساحة للصراع والتقاتل وفرض الإرادة وامتلأت الأفواه بألفاظ لم تكن سائدة وأمسكت الأيدى بأسلحة لم تكن موجودة وزادت الهوة بين نخبة منفصلة عن الشارع الذى يعانى من زلزال التغيير وتوابعه فلا يستطيع حاليا أن يقف متزنا يقيس خطواته أو حتى يفكر فى مستقبله، وبين شارع بركانى الحركة يموج فى داخله باللهب ويهدد بين الحين والآخر بالإنفجار لكى يحرق كل مايعترض طريقه .. اختفى العقل وحل محله أسلوب الغاب، واستسلم الناس لإغراء عدم العمل تحت وهم أنهم بالصياح وحده وبالإعتصام والإشتباك وفرض الإرادة وإقصاء الآخر يمكن أن يغيروا الواقع من حولهم .. ووجد نهازوا الفرص من السياسيين ومعهم قوى سياسية خارجية تملك من أدوات التأثير والمعلومات والخبرة مايمكنها من تنفيذ مخططات تخدم أهدافها ومصالحها الأرض ممهدة لإشعال حرائق الكراهية والحقد والغل والرغبة فى الإنتقام والتدمير بين أبناء الوطن الواحد الذين ابتلع بعظهم عن رضا الطعم وسهل لهؤلاء مهمتهم ولم يتحصن بالعقل يرصد ويحلل ويخرج بنتائج يحدد على أساسها بوصلته واتجاهه.
من هنا أدعو إلى إنشاء "مجلس قومى للتنمية البشرية" يجمع كل المبادرات الفردية أو المؤسسية التى فى مصر فى كيان واحد عملاق تكون مهمته الإستراتيجية الإستثمار فى راس المال البشرى الموجود فى مصر وتحويله إلى طاقة جبارة مسلحة بالعلم والمعرفة والخبرة والمهارات نحتاجها لبناء مصر المستقبل، وتحول المصريين إلى "ميزة تنافسية" وقاعدة لإطلاق الصواريخ العابرة للقارات يستعيدون مجد مصر القديم فى تصدير الأطباء والمهندسين والحرفيين والمعلمين للعالم .. وأزعم أن مثل هذا المجلس بما يتوافر لدينا من علماء ودارسين وإمكانات متوافرة للدولة لم تستغل بالكامل حتى الآن سوف يكون قادرا على رسم خطة استراتيجية تحول المصريين إلى قوة بشرية ضاربة ورأس مال فكرى ينمو باضطراد .. مثل هذا المجلس يمكن أن يكون مصنعا مادته الخام هو الإنسان المصرى وناتجه مواطن مشارك وليس متفرجا، مبادر وليس سلبيا، متعلم وليس جاهلا، محفز وليس مسترخيا، يعلى قيمة العمل على الكلام ، ويصر على قطع المسافات ولايعبأ بالعقبات التى تعترض طريقه .

من قال إن الفيل يستحيل أن يرقص ؟


سؤال يتندر به خبراء الإدارة حين يواجهون بحالة لشركة عملاقة تقليدية ذات تاريخ طويل فى السوق حين تقاوم التغيير وتواجهه بجمود وعناد بزعم أنها تتجنب المخاطر وتأنس إلى النظم والسياسات والإستراتيجيات التى تأنس إليها وترتاح لها بدلا من  المغامرة ومحاولة تجريب نظم جديدة قد لاتكون عواقبها مأمونة .. ويحفز ذلك الخبراء – حين تستدعيهم تلك المؤسسات للمشورة بعد أن تكتشف أنها أصبحت تخسر وأنها مهددة بالإفلاس والخروج من السوق – لكى يقبلوا التحدى ويثبتوا أنهم قادرون على أن يجعلوا الفيل يرقص .. والسؤال البديهى الذى يتبادر إلى الذهن هنا هو: هل سيرقص الفيل من تلقاء نفسه، أم أنه يحتاج لمن يحفزه ويحركه ويقنعه بقدرته على الرقص لكى يفعل ذلك؟ والإجابة الأكثر بداهة هى أن الفيل يحتاج لمدرب يفهم أولا طبائع الفيل وسلوكه وقدراته وأساليب التعامل معه قبل أن يضع خطة لإقناعه ومن ثم يسهل فى نهاية المطاف أن يصمم رقصة تناسب الفيل وتحرك رغبته فى تجريبها وممارستها ويحفزه النجاح فى أدائها على إدخال إبداعات عليها تتحدى قدراته الطبيعية.. يحضرنى الآن مثلان يدللان على مايمكن للناس – لو أحسن إعدادهم واستغلال طاقاتهم– أن يحققوه خارج كل التوقعات التقليدية.
منتصف السبيعينيات شهدت المملكة العربية السعودية مايسمى "بالطفرة" التى واكبت ارتفاع أسعار البترول من 5ر4 دولارات ونصف إلى 32 دولارا ثم الزيادات المضطردة بعد ذلك لكى يصل إلى أكثر من44 دولارا للبرميل بعد حرب 73. أتاحت لى الظروف أن أكون شاهدا على التطور بالغ السرعة الذى صاحب ذلك وأسس لبنية تحتية قوية تقوم على اساس علمى ساعدت بعد ذلك على تغيير وجه الحياة بالمملكة حتى أصبحت الآن فى عداد الدول المتقدمة اقتصادا وتعليما وتأثيرا فى المسرح الدولى دون أن تفقد هويتها.. تنافست كل الشركات من كل أنحاء الدنيا لتنفيذ المشروعات التى كانت مطروحة فى ذلك الوقت من رصف طرق إلى إناره إلى تحلية المياه إلى إنشاء الجامعات والمعاهد العلمية والمطارات والمصانع بأنواعها، وكان هناك تفضيلا للأمريكان على غيرهم نتيجة لعلاقات تاريخية تأصلت رغم ارتفاع أسعار العقود الممنوحة لهم عن غيرها من الدول .. وفجأة تتغير موازين القوى وتدخل الحكومة الكورية طرفا فى المعادلة من خلال شركات كورية عملاقة فتفوز بالعديد من العقود وتضرب اسعار السوق بقسوة لأنها اهتدت إلى فكرة عبقرية حققت لها "ميزة تنافسية" يصعب بل يستحيل التغلب عليها.
أكتشف الكوريون فى ذلك الوقت أنهم لايحتاجون إلى الأعداد المتزايدة من المجندين بينن صفوف القوات المسلحة فقرروا أن يصدروهم كعمالة فنية عالية المستوى إلى دول أخرى تكون الحكومة الكورية طرفا فى التعاقد معها ضمن اتفاقيات تعقدها مع تلك الدول.هؤلاء المجندون يتم تدريبهم على المهن المختلفة المنصوص عليها فى العقود وبمستوى رفيع من الجودة وساعات عمل طويلة يتطلبها سرعة الإنجاز فيجمعون بين إلتزام الجندى ومهارة العامل أو الصانع، وشاهدتهم بنفسى يبدأون يومهم مبكرا بتدريبات رياضية تعدهم ليوم من العمل الشاق ثم ينتشرون إلى مواقع العمل لكى ينفذوا العقود التى أبرمتها دولتهم والتى تدخل حصيلتها خزانتها بعد أن ينال هؤلاء المجندون جزءا عادلا منها..وطبيعى بعد ذلك أن تكون النتيجة جودة أفضل تفوق بكثير مايقدمه غيرهم وسعر تنافسى لايستطيع الأمريكان والأوروبيون أن يكسروه بما اعتادوا عليه من مرتبات وأجور ومزايا وظروف إعاشة مرتفعة المستوى للعاملين بمؤسساتهم، وانتشرت تبعا لذلك الشركات الكورية الخاصة لسنوات طويلة وثبتت أقدامها فى المملكة ومنها إلى باقى دول الخليج وانحسر المد الأمريكى تدريجيا استجابة لفعاليات السوق وقوانين العرض والطلب.
المثال الثانى من كوريا أيضا، وإن كان الفيل هنا لم يكن جاهلا بأصول الرقص حين جاء مغنى كورى أحدث انقلابا على المقاييس الفنية السائدة برقصة يصاحبها عبارة واحدة من ثلاث كلمات لاتتغير وخلفيات متنوعة تسخر من مجتمع الأغنياء الجدد "محدثى النعمة" فى حى مشهور  بسيول عاصمة كوريا الجنوبية يحمل إسم الأغنية وحبهم للظهور ومبالغاتهم فى اقتناء كل مايؤكد تميزهم وثرائهم عن باقى الناس حتى لو كان تافها وساذجا.. رقصة "جانجنام ستايل Gangnam Style" أصبحت هوسا عالميا يرقص عليها الملايين من الشيوخ والشباب والنساء والأطفال فى قارات العالم الخمس بكل مافيها من فيلة من أول أفريقيا إلى الهند وجبال الهملايا دون التوقف كثيرا عند معناها حتى أن الرئيس الأمريكى نفسه قد جربها واستغلها فى دعايته الإنتخابية مروجا لصورة ذهنية يريدها أن تنطبع فى أذهان الناخبين للرئيس الشاب فائق الحيوية المتابع لكل مايدور فى العالم حتى لو كان رقصة من مطرب كورى مغمور لايعرف عنه أحد فى الولايات المتحدة الأمريكية شيئا.. إذن "التفكير الإبتكارى" غير التقليدى "والنغمة" الصحيحة فى لغة الخطاب "والتوقيت" المناسب يمكن أن يكونوا أدوات هامة فى إحداث التغيير حتى لو كان بحجم وطن بأكمله وبسرعة تفوق مانتوقعه لو حسبناها بالعلم وحده.