Monday, July 29, 2013

الحارة السد التى وصلنا إليها

الحارة السد التى وصلنا إليها فى مصر الآن تضع كل المصريين بلا استثناء ووجوههم للحائط لايرون ماخلفه ولايستطيعون تسلقه، وهو وضع لايمكن أن يستمر طويلا لو أردنا أعادة بناء مصر فى سباق مع الزمن لكى تعود إلى مصاف الدول التى تمتلك مقومات الدولة دون أن يعنى ذلك بالضرورة استعادتها لمكانتها وتأثيرها السابق كلاعب رئيسى على المسرح الدولى .. الفصائل المتناحرة على حكم مصر للأسف تفتقد لرؤية مستقبلية شجاعة تجعلهم يحسنون تقييم الموقف والإعتراف بالأخطاء ثم البحث عن الوسائل العملية التى تعترف بما يدور على أرض الواقع فى إيجاد حل يوافق عليه غالبية الشعب وبدائل يمكن اللجوء إليها لو لم يفلح هذا الحل.
والذين يتحدثون عن حرب أهلية فى مصر لايدركون أبعاد مايخافون منه، وأن مثل تلك الحرب لو حدثت لاقدر الله فلابد وأنها سوف تستمر لعدة سنوات من المؤكد أن يتحقق فيها كامل خراب مصر وتركها نهبا لكل طامع وحاقد ومستعمر إذا لزم الأمر .. فى انجلترا استمرت أول حرب أهلية بها فى القرن السابع عشر تسع سنوات "1642 – 1651" وفى روسيا أكثر من خمس سنوات أطول "1917-1922" حتى وإن اختلفت الظروف والأهداف واختلف اللاعبون على المسرح، وعقب كل حرب من تلك الحروب تستنفذ الدول جزءا كبيرا من مواردها وطاقاتها لكى تصلح ماتم إتلافه وتعيد بناء ماتهدم..مصر لاتحتمل شيئ من هذا القبيل، وتجاهل إمكانية حدوثة نوع من الغفلة والمبالغة فى التفاؤل سوف يضر بنا مالم نتدارك الأمر بسرعة بحل لايعتمد على القوة أو القهر أوالإصرار على تحقيق المطالب كاملة وإستسلام أى طرف آخر يختلف معنا فى مطالبه وعقيدته وأهدافه .. ذلك يحدث فقط فى الحروب بين الدول، وليس فى حروب بين جيش مصر والمصريين أيا كانت توجهاتهم وعقائدهم ومطالبهم.
ماالذى يمكن عمله إذن؟ نجلس مستندين إلى الحائط لكى نجد حلا توافقيا لايغتال قانونا ولايؤسس لهيمنة ولا يلوح بعقاب .. نجلس وقد اقتنع كل منا أننا ارتكبنا أخطاء فادحة فى حق أنفسنا وفى حق الوطن، وأننا بحاجة ماسة وسريعة للخروج من النفق المظلم الذى حشرنا أنفسنا فيه دون مزيد من الضحايا ومزيد من روح الثأر التى تسيطر على الشارع المصرى الآن .. مسميات رومانسية مثل "الوفاق الوطنى" لن تصلح لكى تخفف من وقع ماجرى ويجرى، وإنما تسمية الأمور بأسمائها وإيجاد مخرج دستورى لايفصل على مقاس فصيل أو فصائل من المصريين ولكن يتعامل معهم جميعا كشركاء فى وطن واحد يضمهم يكافة أطيافهم .. الحل الذى نبحث عنه هو حل يضمن خروج الجيش من المعادلة وابتعاده عن السياسة وتفرغه لمهمته النبيلة لحماية حدود مصر وأمنها القومى، ويضمن لمصر تجربة ديموقراطية حقيقية تأتى بمن يختاره الناس دون أن يعطى أى طرف لنفسه الحق فى أن يقصيه مادام لايرضى عنه .. بدون مثل هذا الحل سوف يظل الحال على ماهو عليه، ولن يرضى المجتمع الدولى بالتعامل معنا على أننا دولة مستقرة حتى وأن فعلت بعض الدول إلى حين حفاظا على مصالحها، وسوف نظل نعانى ونقاسى من الإنقسام والتشرذم لأجيال كثيرة قادمة.

دم مصر فى رقابنا جميعا بلا استثناء، وأكثرنا قوة ومقدرة يتحمل قدرا أكبر من المسئولية عما يحدث وهو بذلك مطالب بأن يتصدى بشجاعة الرجال للكارثة التى أحلت بنا ويجمع حوله عقلاء الأمة من المتخصصين تخصصا رفيعا والممارسين الذين يعايشون الواقع ويحسون مرارته ويعطيهم مهلة معقولة للإتفاق على حل وحلول بديلة تطرح على الناس ربما فى استفتاء عام لكى يحدث عليها توافق من معظم المصريين وتشكل بداية لطريق الحل الذى يحفظ للوطن وحدته وتماسكه. ماأدعو إليه هنا هو حل جذرى وليس مسكنا يهدئ الأمور إلى حين ويجعل النار تختفى تحت الرماد الذى سرعان ماتبدده رياح التغيير فتحرق نيران التربص كل ماحولها بما يستحيل معه أن نتمكن من إطفائها أو حتى محاصرتها .. الأطماع الشخصية كالمعاصى لذيذة ومغرية ولكنها فى النهاية تثقل كواهلنا بالذنوب وتأنيب الضمير وقد نفلت من العقاب فى الدنيا ولكن عين الله الساهرة لاتنام وحسابه يوم العرض عليه عسير وملائكته سبحانه الذين يسجلون علينا أنفاسنا لايتركون شاردة ولا واردة إلا أحصوها. 

إدارة التخلف

دراسات عديدة قرأتها تتناول بالتحليل ظاهرة الدكتاتورية وكيف يتفنن الحاكم الديكتاتور فى تشكيل فرق العمل التى سوف يعتمد عليها أركان حكمه واهتمامات كل فئة لكى يظل مسيطرا عليها، والإستراتيجيات التى سوف يتبعها فى إخضاع شعبه وترويضه وسلب إرادة التغيير لديه حتى يظل مسيطرا على مقاليد الحكم مخلدا فى منصبه  .. الدكتاتور يعى جيدا أن هناك علاقة بين الجهل وملء البطن، وبين العلم وملء العقول، وأن إدارة التخلف أسهل بكثير جدا من إدارة التقدم والتطوير.. تنحصر الإدارة فى الأولى فى توفير احتياجات نشترك فيها مع باقى مخلوقات الله وأهمها توفير الطعام ، أما الثانية فتحتاج لمؤسسات ورؤى تستشرف المستقبل ومواردها العلم بكافة فروعه والمشاركة فى تقرير المصير.
نجح عميد الدكتاتورية فى العالم العربى حسنى مبارك وأسرته وخدام حكمه وعهده خلال 30 عاما فى أن يجرف موارد الوطن كله يملأ بخيراته خزائنه داخل البلاد وخارجها ومعها التعليم والعقل والفكر والثقافة حتى صار المصريون كائنات تسير بالفطرة تحركها العواطف تنأى بنفسها عن المشاركة وتنعم بالكسل والسلبية وتغيب فى دهاليز الأحلام يخدرها التمنى بعد أن فوضوا أمرهم إلى الله يأتيهم كمنحة إلهية لاتكلفهم أى مجهود .. ولعل غالبيتنا لايزالون يفضلون التفسير القدرى لثورة 25 يناير التى أطاحت بمبارك فى ثمانية عشر يوما ويتوقفون عند ذلك دون أن يرهقوا تفكيرهم بما ينبغى عمله لكى تكتمل الثورة وتتحقق أهدافها باعتبار أن الثورة كانت الخطوة الأولى فقط للتغيير.
وحتى لايكون الكلام مرسلا فإنى أسجل كل حين من واقع التعامل اليومى مايؤيد ذلك ويدعمه، ولذلك تجيئ الأمثلة التى استشهد بها صادمة بل وأحيانا تستعصى على التصديق .. أمثلة كاشفة لمستوى جودة الإنسان المصرى وحياته وتفكيره وسلوكه وقدر الإستكانة والتسليم بالأمر الواقع الذى وصل إليه .. الإستكانة والضعف انقلب بعد الثورة إلى اندفاع غير منظم وفوضى ممنهجة وعنف لايعرف حدودا وأصبحت حياتنا كلها عشوائية فى أهدافها وعشوائية فى وسائل طلب وتحقيق تلك الأهداف وانقسم المصريون إلى فصائل وشيع وتحالفات يتربصون ويترقبون ولايتفقون على شيئ ويختلفون فى كل شيئ.. وحين نرى ماصار إليه حال النخبة من المتعلمين والمثقفين يصبح قياس حال من دون ذلك من الطبقات والفئات أمرا سهلا لايحتاج إلى كثير من الجهد.
أحد طلابى سجل لنيل رسالة الدكتوراه بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية واجتاز كل متطلبات الحصول على الدرجة العلمية التى استحقها بعد عمل متواصل لعدة سنين .. تأخر منحه الشهادة الدالة على ذلك لتقديمها إلى جهة عمله الحالى بإحدى الوزارات، ولما سأل عن السبب أخبره موظف شئون الطلاب بالكلية أنه لم يسدد تأمين مكتبة الجامعة فسارع بتسديده ليكتشف أن المطلوب خمسة جنيهات فقط لاغير.. اعتقد أن الموضوع انتهى عند هذا الحد ولكن هيهات لبيروقراطية التخلف أن تقنع بذلك .. طلب منه نفس الموظف أن يسدد تأمين مكتبة الكلية وقدره جنيهان ونصف، أى أن سبعة جنيهات ونصف فقط كانت سببا فى تأخر حصول طالب لشهادة تثبت حصوله على درجة علمية رفيعة مثل الدكتوراه من جامعة القاهرة ومن كلية من كليات القمة بها يتخرج فيها من يطمحون للعمل بالسلك الدبلوماسى أو تقلد المناصب السياسية بالدولة .. الأدهى والأمر أن أحدا من الموظفين لم يكلف خاطره بالإتصال بالطالب الذى أصبح دكتورا لكى يطلب منه الحضور لاستلام شهادته وسداد الرسوم القليلة المطلوبة أو حتى يبادر بدفعها عنه – وهى تافهة القيمة - حتى ولو لم يطالبه بها.

فى حالة كهذه – ولدى غيرها كثير – هناك سؤال لسؤال يفرض نفسه: لماذا لم يبادر أحد باقتراح إصدار القانون أو القرار اللازم لإسقاط تحصيل تلك المبالغ التافهة التى يتكلف تحصيلها بالقطع أضعاف قيمتها، أو تحصيل مبالغ واقعية يمكن أن تسهم فى تحسين حال الخدمات التى تقدم لطلاب الجامعات ومنها المكتبات؟ هو العجز واللأمبالاة وفقدان الإرادة للتغيير والكسل وتآكل الرغبة فى العمل وانتظار أن تمطر السماء ذهبا وفضة من جهات مانحة ومستثمرين سوف يشفقون علينا فيساعدوننا إكراما لعيون مصر وتاريخها التليد.

حكاية إمرأة غيرت ثقافة أمة

 قد يجهل الكثيرون أن مشوار التحضر الأمريكى لم يبدأ سوى من ثمانية وستين عاما فقط وأن امرأة زنجية بسيطة تعمل خياطة تدعى "روزا باركس" هى التى أشعلت شرارة العصيان المدنى للزنوج فى أمريكا وبداية حركة الحقوق المدنية والمساواة وتوقف العنصرية البغيضة التى كانت سائدة فى المجتمع فى ذلك الوقت ليس على مستوى الثقافة فقط وإنما بقوانين تدعمها وتهدد من يخرج عليها بالسجن أو الغرامة .. أطلق عليها الكونجرس على تلك المرأة بعد ذلك ألقابا مثل " السيدة الأولى للحقوق المدنية" و " الأم الروحية للحرية" .. تبدأ القصة حين صعدت روزا الأتوبيس الساعة السادسة مساء يوم الخميس الأول من ديسمبر عام 1955 فى مدينة مونتجمرى بولاية ألاباما الأمريكية عائدة إلى منزلها وجلست على أحد المقاعد فى أول صف مخصص للزنوج وسط الأوتوبيس.
امتلأ الأتوبيس تدريجيا بالركاب وطبيعى أن يقف بعض الركاب البيض .. لم يعجب ذلك سائق الأتوبيس فتوجه إلى روزا وثلاثة آخرين من الزنوج كانوا يجلسون بجوارها طالبا منهم أن يتركوا مقاعدهم للركاب البيض .. انصاع الثلاثة الآخرون للأمر ولكن روزا رفضت بأدب وتمسكت بحقها فى الجلوس فى المقعد الذى كان خاليا وقت صعودها إلى الأتوبيس .. استدعى السائق الشرطة التى قبضت على روزا وكبلت يديها واقتادتها إلى مركز البوليس حيث ذهبت أمها مع محاميها وسددا الكفالة المطلوبة لإطلاق سراحها بعد قضائها يوم فى الحبس وحتى يحين موعد محاكمتها .. اتصل محاميها بقس شاب إسمه "مارتن لوثر كنج" يطلب منه السماح بعقد اجتماع بكنيسته الصغيرة لعدد من أصدقاء روزا يريدون أن يعبروا عن رفضهم لهذا التمييز العنصرى والظلم الواقع على الزنوج .. تردد القس فى البداية لجسامة الحدث فى ظل القوانين السارية حينذاك، ولكنه عاد ووافق بعد أن توسط عدد من أصدقائه لكى يسمح بفتح إبراشيته أمام أول ثورة سلمية جماعية للزنوج فى تاريخ أمريكا.
 قرر المجتمعون أن يقاطعوا ركوب الأتوبيس فى يوم معلوم وتناقلت الصحف المحلية أنباء تلك المقاطعة وانتخبوا القس الذى اصبح فيما بعد رمزا لحركة المقاومة ضد التمييز العنصرى رئيسا للحركة حتى تم اغتياله على يد متطرف متعصب أبيض .. حين قرأ المواطنين الزنوج الصحف وسمعوا مادار فى الإجتماع أعلنوا عن تضامنهم مع روزا، وبالفعل قاطعوا ركوب الأتوبيسات فى ذلك اليوم لاسيما وأن سائقى التاكسى من الزنوج أعلنوا أنهم سوف يقومون بنقل ذويهم من وإلى العمل فى ذلك اليوم بأجرة موحدة مساوية لأجرة تذكرة الأتوبيس وهى عشرة سنتات، ووزعت المنشورات على كل البيوت وفى صناديق البريد تؤكد الإضراب.
مثلت روزا أمام القاضى بينما تجمع حوالى خمسمائة من اصدقائها بطرقات المحكمة انتظارا للحكم، ووجدها القاضى مذنبة بمخالفتها لقانون التفرقة فى المعاملة والفصل بين الزنوج وغيرهم واصدر حكمه عليها بالغرامة 14 دولارا بالإضافة إلى يوم الحبس الذى قضته فى قسم البوليس، ولكن الحادث أشعل فتيل ثورة الزنوج للمطالبة بحقهم فى الحياة والمساواة فى مجتمع ظالم وتحملوا التضحيات الجسام لأكثر من ربع قرن بعد أن حكمت المحكمة العليا بعدم دستورية القانون فى يونيه 1956 أى بعد أقل من عام من القبض على روزا باركس، وأصبحت أمريكا يضرب بها المثل فى الديموقراطية والمساواة دون تفرقة أو تعصب أو محاباة بسبب اللون أو الجنس أو الديانة وتوجت حركة التحرر تلك بتولى باراك أوباما رئاسة أمريكا كأول رئيس اسود وهو بذلك مدين لروزا بمنصبه كأول زعيمة فعلية بدأت رحلة الألف ميل التى أكملها مارتن لوثر كنج وأتباعه من بعده حتى تغير وجه المجتمع األأمريكى كما قلنا.

الدروس التى نتعلمها من ذلك كثيرة .. أولها أن التغيير المجتمعى – حتى لو كان ثورة على ثوابت قديمة وعادات متوارثة – ممكن ولكنه يحتاج لقضية تهم قطاعا كبيرا من الناس يجمعون عليها ويتعاطفون معها ويقفوا وراءها ويسمعون صوتهم لباقى قطاعات المجتمع لكسب التأييد وتوسيع دائرة الدعوة لقضيتهم وشرح دوافعهم والتأكيد على العائد الإيجابى للمجتمع ككل إذا ناصر تلك القضية وأن المطالبة بالحقوق لاينتقص من حقوق أى طرف مجتمعى آخر .. كل ذلك يحتاج لقيادة واعية تخاطب وعى الناس وعقولهم وقلوبهم تناقش وتشرح بإصرار حتى لاتموت القضية، وإعلام واع لايُهوِّل ولايُهوِّن، وأن يكون التغبير عن المطالبة بالحق سلميا لايضر بمصالح باقى قطاعات المجتمع ولايهدد أمنهم ولا سلامتهم ولا يعتدى على المنشئات العامة ومرافق الدولة التى يشترك كل الناس فى ملكيتها واستخدامها .. فهل نتعلم جميعا الدرس؟

توابع تغييب العقل

حين يضيق بى الحال فى تفسير مايدور حولى خاصة إذا كان يخرج عن حيز المألوف، أجدنى أبحث عن حالة اقتراضية يتناولها عقلى بالرصد والتحليل ويضع لها السيناريوهات المختلفة المحتملة .. أصبحت افعل ذلك حين أريد أن أمرن عضلات المخ فلا تخمل ولاتترهل فتضيف إلى أعباء جسدى الذى يشيخ بحكم الزمن ويشككنى أحيانا فى قدرتى على العطاء بنفس القدر الذى اعتدت عليه.
حين استعيد عجائب المخ ومعجزات مقدرته فى التدليل على عظمة خلق الله، يسلينى جدا أن أرقب وأسمع من يتجنبون بشتى الطرق أن يرهقوا تفكيرهم بالتعمق فى المشكلات أو المشاركة فى حركة الحياة وينادون بمبادئ هدامة ينشرونها بين أصدقائهم ومعارفهم وهم مؤمنون بأنهم يحسنون صنعا .. هؤلاء يرددون كثيرا نصائح من نوع "كبر مخك" و "كبر دماغك" أو "إشترى دماغك" يقصدون بها ألا نفكر كثيرا أو لانتعمق فى التفكير بعمق فى أى مشكلة حتى لو كانت تمس حياتنا وتهدد استقرارها .. السر فى ضحكى هو أن المعنى الظاهر للنصيحة أن ينمو المخ ويكبر ويصبح أكثر قدرة على التفكير دون إرهاق بينما المقصود عكس ذلك تماما ودعوة إلى إلغائه إن أمكن حتى لانتعذب بالتفكير الدائم والمستمر .. أما السبب الثانى الذى يثير كوامن السخرية عندى فهو أن طبيعة المخ الذى هو مكمن العقل وتكوينه تجعله أكبر بكثير مما يظنون مما يستعصى معه وضع تصور واقعى أو حتى علمى لطريقة عمله وإمكاناته.
وزن المخ يمثل 2% فقط من وزن الجسم ويقع فى تجويف الجمجمة تحميه عظامها الصلبة من التعرض للأذى أو الحوادث العارضة التى قد تؤثر فيه .. هذا العضو الغريب الصغير الحجم جدا بالنسبة للجسم هو الذى يتحكم فى حركة الجسم كله وينسق بين باقى الأعضاء، وهو مكمن الفكر والأحاسيس بكل أنواعها ولذلك يستهلك وحده 30% من الطاقة التى يحرقها الجسم فى للقيام بوظائفه وممارسة الأنشطة المختلفة للحياة اليومية.. وقد لايعرف الكثيرون أن مخ الإنسان العادى يتكون من مليارات الخلايا التى نحرق منها يوميا مالايقل عن 100 ألف خلية وأن كل تلك الخلايا التى يتكون منها المخ تتصل ببعضها البعض وأننا نعيش ونموت وقد لانستخدم أكثر من 1.5% من طاقة المخ ويذهب بعض العلماء إلى أن تلك مبالغة وأن الحقيقة هى أننا نستهلك أقل قليلا من 1% .. إذن لايوجد لا الآن ولا مستقبلا كمبيوتر يمكن أن يحاكى المخ فى وظائفه أو حتى يقترب مما يمكن أن يفعله المخ لو استغلت طاقته كاملة.
ويجرفنى شلال التفكير عند هذه النقطة إلى الإستطراد فى التحليل بسرعة يصبح معها محاولة التوقف لالتقاط الأنفاس مخاطرة غير محمودة العواقب .. ماالذى جعل غالبية الناس فى مصر يتحيزون للتقليل من قيمة العقل وإرهاقه وتدريبه على التفكير والتحليل واستخلاص النتائج، وماالذى يجعلهم يتنازلون بتلك السهولة عن الإستفادة بخدماته المجانية ويميلون إلى الحلول السهلة التلقائية أو التى تعتمد على التخمين والحدس والرضى بما يحدث بعد ذلك على أنه أمر واقع؟ لماذا تضاءلت مساحة التخطيط فى حياتنا حتى بين الباحثين والدارسين ممن لايمكن أن ينجزوا أعمالهم أو يؤدونها بكفاءة دون تخطيط محكم وأهداف يسعون لتحقيقها ومتابعة تمكنهم من تفادى الأخطاء ثم تحقيق الأهداف والإحتفال بذلك لتحفيز أنفسهم على مزيد من التخطيط؟ ولماذا ننتظر دائما المجهول على أنه قدرمكتوب وأنه لابد واقع دون أن نأخذ بالأسباب ثم نترك المقدر يحدث بإرادة الله؟ لماذا أصبحنا "مخدرين" ولماذا استرخت إرادتنا إلى الحد الذى لانريد حتى أن نفكر فى تغيير الواقع الذى لانرضى عنه ونملك تغييره بقليل من الإخلاص فى العمل؟

ويجنح بى الخيال أكثر فأتخيل أنه تم حقننا جميعا بفاكسين يجعلنا منساقين دون أن ندرى لكى نحقق أكبر عملية انتحار قومية لشعب بأكمله فى التاريخ، وأننا قررنا أن نتفوق بإرادتنا الحرة على كل من يخطط لكى ينهك عافية مصر وشعبها وأن يعاد رسم خريطة العالم بدون مصر أو أن يشار إليها بمساحة منزوية على استحياء بلون رمادى عديم الشخصية .. ترى هل اقتربت من الواقع ، أم أنى قد جنح بى الخيال ليطغى على كل واقع وعلى قدرتى فى توظيف العقل لكى أفهم؟ إن غدا لناظره قريب.