المقارنة بين حكوماتنا وبين حكومات الدول المتقدمة مقارنة ظالمة بكل المقاييس ، فلا يمكن مقارنة من يتعلم السباحة بمن يعبر المانش ، ولا من يجرب ركوب الدراجة بمن يقود النفاثة .. هناك حكومات لاتملك إلا أن تخدم شعوبها وإلا رحلت ، وهناك حكومات تعتقد أن الشعب موجود لكى يحافظ على بقائها يلهج بالشكر والثناء على تفضلها بقبول حكمه وتحمل سخافاته ورزالته والمعانة الرهيبة التى تتحملها فى الحفاظ على نحطاطه وتخلفه.
كلما عدت من رحلة عمل بالخارج أظل لعدة أيام أحاول أن أطرد أفكارا وهواجس تؤرقنى وتزلزل كيانى ، وبين كل هاجس وهاجس تبرز لافتة مشهورة تحتفظ حكوماتنا المتعاقبة بآلاف النسخ منها فى مخازنها لكى تستعملها كلما عن لها أن تخرج علينا ببدعة أو قانون جديد ترقع به الثوب المهلهل للحكم الرشيد .. لافتة "لسنا وحدنا الذين نفعل ذلك ..." التى زاد استخدامها خلال الثلاثين عاما الماضية أصبحت مثل المحلل الذى يعلم أن الزواج باطل ولكنه يقنع نفسه أنه يتطوع لكى يجمع راسين فى الحلال .. تعالوا نأخذ بعض الأمثلة :
• صحيح أن الضريبة العقارية تدفع عن كل وحدة سكنية والهروب من دفعها مستحيل وإن حدث فهو جريمة تستوجب العقاب .. ولكن المواطن يراقب أوجه صرف تلك الضريبة التى يدفعها للحى الذى يتبعه بالمليم .. تتواصل الأحياء مع الملاك والسكان الجدد وتقوم بإرسال خطاب رقيق يرحب بهم ومرفق به كتيب مفصل يحتوى على كل السياسات والنظم التى تحكم عمل الحى فيما يختص بالصيانة الدورية للطرق والمرافق والحدائق بما فى ذلك خدمات المرور والبوليس والمطافى والمستشفيات التابعة لكل حى .. وليس ذلك فقط وإنما يقوم كل حى بإرسال فاتورة شهرية مفصلة بأوجه صرف الضريبة المحصلة موزعة على كل قطاعات الخدمات لكى يراجعها المواطن ويعترض عليها إذا اراد .. هل هناك احترام لرأى المواطن ورقابة أدق من ذلك ؟ هنا يتصرف وزير المالية فى أى أموال على أنها جزء من بيت المال حتى لو كانت صناديق خاصة أو أموال المعاشات التى تديرها الدولة ولكنها بالقطع ليست بندا من بنود ميزانيتها ولاتملك حرية التصرف فيها فى غير الغرض المخصصة لأجله.. المواطن هناك يدفع ويحصل فى المقابل على خدمات منتظمة بمستوى وهنا يدفع دون أن يكون له حتى حق السؤال عن العائد على مايدفعه.
• شوارع عواصم الدول ليست أوسع من شوارع القاهرة ولكن الإلتزام يجعلها تكفى وتزيد لكى تستوعب كل أنواع المركبات التى تسير فى مسارات محددة لكل نوع منها .. الإنتظار مسموح به فى كل الشوارع ولكن بنظام دقيق وصارم يحدد الوقت المسموح به والغرض من الإنتظارعلى امتداد أيام الأسبوع وفى أيام العطلات الرسمية وبألوان تحدد ذلك .. الشوارع هناك مخصصة فقط للسيارات والمشاة بأرصفة عريضة تسمح بحرية الحركة وسلاستها والتمتع بالنظر إلى ماتعرضه المحال من منتجات .. حتى حين يتهافت الناس على منتج جديد يريدون أن يكونوا أول من يقتنيه فإنهم يقفون فى صفوف منتظمة لعدة أيام فى حراسة عدد قليل من رجال الشرطة .. وطبيعى أن يكون ذلك هو نفس السلوك عند التظاهر الذى يتم دون إذن مسبق من أى جهة ولكن فى حراسة الشرطة المتواجدة فى كل وقت دون استعراض للقوة ودون كثافة عددية كما هو الحال عندنا.. الإستجابة سريعة عند طلب النجدة فتالشرطة والإسعاف عندك خلال دقائق جاهزة للحركة طبقا للحالة .. فوضى اللوحات الإعلانية التى تخنق شوارعنا وتلوثها جماليا وتحتل أرصفة المشاة لكى تحرم الناس من حقها فى التجول بحرية على الأقدام غير موجودة فى التدول المتقدمة .. اللآفتات الوحيدة المسموح بها هى اللافتات الرسمية المكتوب عليها تعليمات المرور والإنتظار وأماكن الإتصال بالخدمات العاجلة والمطلوب من الناس أن يركزوا عليها ويستوعبونها حتى لايخالفوا القانون فضلا عن الشكر المزرى والفوضى التى تسببها لوحات الإعلان لوتركت لسلطان المال بغير تنظيم ، وقد تتسبب فى حجب الرؤية والحوادث للمشاة والسيارات على السواء.
• أما مايثير الإعجاب فعلا فهو أن الناس يستغلون بمهارة فائقة المساحات المتاحة لهم والإمكانات والأجواء التى توفر لهم الراحة فى أداء أعمالهم فتجد المقاهى منتشرة فى كل مكان بما فى ذلك المحال الكبرى ولكنها تستغل لأكثر من تناول قدح من القهوة أو الشاى .. هناك أماكن بسيطة ومريحة ومجهزة لاستقبال إشارات الإتصال لاستخدام الإنترنت المجانى مخصصة لإجتماع بسيط تناقش فيه الأعمال أو تعقد الصفقات أو تجرى المقابلات الشخصية لطالبى الوظائف فى جو غير رسمى فيضرب صاحب المكان عصفورين بحجر واحد : تزداد مبيعاته وشهرته ويصبح التنافس على قدر الراحة التى يحس بها من يرتاد المكان، ويقلل من التوتر المعتاد فى بعض لقاءات العمل التى قد لاتتطلب فى أحد مراحلها أجواء العمل الرسمية التى تفرض قيودا وضغوطا يمكن تجنبها.. طبعا لاأريد هناك أن أتحدث عن مستوى النظافة وحسن السلوك والتسابق على إرضاء العميل والإنصات باهتمام لأى ملاحظة أو اقتراح من شأنه أن يحسن من مستوى الخدمة .. العاملون فى تلك الأماكن يعرفون أن بقاءهم فى وظائفهم رهن بتفانيهم فى خدمة العميل وتتأثر دخولهم تبعا لذلك ومعها مستوياتهم الوظيفية .. الحدائق المجانية موجودة فى كل مكان لمن يريد الإستمتاع المجانى بالطبيعة ، وفى كل مجمع سكنى صغير حديقة مشتركة يقوم الحى على صيانتها ويحافظ عليها الناس.. يحافظون على أى مساحة خضراء وحين تنحسر المياه عن الأنهار فى بعض مواسم الزراعة يسارع الناس باللقاء على الشاطئ فى أجازات قصيرة يقتنصونها ومعهم كراسيهم ووسائل التسلية البسيطة يتعارفون ويتسامرون فى لهو برئ .
أعلم أن الإتهامات بسوء السلوك والسمعة للناس فى لعبة البيضة والفرخة التى تلعبها معنا حكومات مصر المتعاقبة جاهزة، ولكنى أعلم أيضا أن الإصرار على تطبيق القانون على المسيئ وبالتساوى دون تفرقه كفيل بأن يردع من يتعمدون إفساد المرافق العامة أو يسهمون فى انتشار العشوائيات .. وتلك قصة أخرى.
Thursday, June 03, 2010
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment