المتابع لحال التعليم فى العالم العربى لابد وأن يصاب بحالة من الانزعاج والألم الشديدين للواقع المرير لهذا الحال والذى تؤيده العديد من الدراسات الميدانية التى لاتترك مجالا للشك فى أننا نحتاج إلى ثورة تعليمية حقيقية لو أردنا أن نتدارك الأخطاء الفادحة التى ترتكب ، ونقلل بقدر المستطاع من حجم الدمار الذى يصيب عقولنا فى مقتل ، والذى يتزايد باضطراد بتزايد عدد الخريجين فى معظم مدارسنا وجامعاتنا بشكلها الحالى. والثورة التى أعنيها لإصلاح حال التعليم فى العالم العربى لايمكن أن تكون حكومية ، فالحكومات لاتقوم بثورات ضد نفسها ، لكنها ثورة يقودها المجتمع المدنى وأصحاب المصلحة فى تحسين جودة التعليم . ثورة اجتماعية تأخذ بزمام المبادرة نحوتشكيل لوبى شعبى منظم وجماعات ضغط هدفها تعليم رفيع الجودة يصلح لأن يكون الركيزة الأساسية للاصلاح الاجتماعى والثقافى والاقتصادى ، ركيزة تجعل العالم العربى قوة فكرية وليست عددية حيث تصبح الأعداد مهما كثرت مجرد أصفار مالم يحمل أصحابها عقولا تفكر وتبدع وتبتكر. إن قراءة سريعة فى النسب المتضائلة لمانخصصه من الناتج المحلى الإجمالى على التعليم (لاتزيد فى المتوسط عن 9ر4%) مقارنة بغيرنا من الدول المتقدمة لابد وأن يصيبنا بالخجل من أننا نخصص لملء البطون أضعاف مانخصص لملء العقول . ولابد وأن تتدهور تبعا لذلك – بالإضافة إلى مايسببه من تداعيات - مخرجات التعليم فى كل مراحله حيث تتضافر العديد من الأسباب التى تزيد من تسارع عملية التدهور وتجعلها أكثر تعقيدا فى معظم الدول العربية، مثل :
· تبنى المؤسسات التعليمية لسياسات ونظم متباينة ومتشابكة لاتحقق التواصل الفكرى المطلوب ، ولاتسمح بحرية الحركة والتنقل وتبادل الخبرات والتكامل ، وتجعل كل دولة عربية جزيرة منعزلة منغلقة ثقافيا وفكريا يكلم مواطنوها أنفسهم ويجترون تجاربهم الخاصة ، ويرفضون الانفتاح على جيرانهم والعالم من حولهم .
· مقررات ومناهج جامدة غير مرنة تعتمد على الحفظ والاسترجاع، وتدور فى فلك محدد سلفا، ولاتواكب التطور العالمى فى مجالات العلوم والآداب والفنون ، وتبنى السدود أمام روافد التفكير الابتكارى والنقدى ، ولاتشجع الابتكار ولا التجديد .
· إهمال الاستثمار فى تطوير مهارات وقدرات وجدارات المعلمين الذين هم فى الأساس من نواتج النظم التعليمية المهترئة التى تجهض فى مجموعها حقوق الإنسان، والحق فى تحدى الأفكار قبل قبولها ، واحترام ديمقراطية الفكر، وتقوم على الحوار والتفاعل وليس على التلقين والقهر.
· الأمية الكاسحة فى كثير من الدول العربية ، وفشل الحكومات فى مكافحة تلك الأمية التى تصل فى المتوسط إلى 7ر48% ، أى أكثر من 61 مليون مواطن فى سن الخامسة عشرة وما فوقها، وتصل فى بعض البلدان إلى أكثر من ذلك مثل السودان (42%) والمغرب (55%) وموريتانا (54%)واليمن (56%) وجيبوتى (42%)، بينما تنخفض إلى اقل من ذلك فى دول مثل تونس (32%) ومصر(34%) الجزائر (37%).
وعلى الرغم من أن 67 مليونا من العرب تقريبا من إجمالى 270 مليونا يدخلون القرن الحادى والعشرين وهم أميون بالمفهوم القديم التقليدى للأمية ، أى لايقرأون ولايكتبون (ناهيك عن عدم استخدام التكنولوجيا)، فإن جهود مكافحة الأمية فى العالم العربى لو استمرت بنفس الإيقاع، فإن نسبة الأمية بين البالغين عام 2015 سوف تظل عالية (28%). بل إن فى خمسة دول عربية هى مصر والسودان والجزائر والمغرب واليمن يعيش على أرضها 49 مليونا من مجموع 67 مليونا من الأميين فى العالم العربى ، أى 73% من الأميين بالدول العربية الإثنين وعشرين .
تتفشى الأمية بيننا إذن على الرغم من وجود مايقرب من 250 جامعة يتخرج فيها مئات الألوف كل عام، ولكنها أعداد منزوعة الدسم ، أعداد لاتضيف قيمة للمخزون الفكرى للأمة. العلاقة بين الأمية والتعليم واضحة فى حالتنا حيث أن جامعاتنا ببساطة تخرج أفواجا متتالية من الجهال يحملون درجات علمية قد تكون معتمدة محليا ، ولكنها بالمستوى العالمى لضمان الجودة والاعتماد لاتساوى ثمن طباعتها ، إلا لو اعتبرنا أن غياب جامعاتنا عن قائمة أفضل 500 جامعة فى العالم ثم أفضل 100 جامعة فى العالم حدثا عاديا لايستحق أن نتوقف عنده.
إذن ، جهود الحكومات وحدها لإصلاح التعليم لم تكن كافية ، ولن تكون كافية ، وإيقاع التطور من حولنا يكتسح فى طريقه زحف السلاحف الذى تتميز به الجهود النمطية فى إصلاح التعليم. ومن هنا كانت الدعوة لتفعيل دور المجتمع المدنى فى أخطر قضية يواجهها العالم العربى فى تاريخه وتتعلق باستثمار "رأس المال الفكرى" للأمة وتعظيم العائد من هذا الاستثمار. ومثلما تقوم نهضة المجتمعات المتقدمة على أكتاف المجتمع المدنى الذى يقوم بدور قاطرة التنمية ويمارس حقه فى الرقابة والمطالبة بحقوق الناس ، فإن الارتقاء بجودة التعليم عندنا لابد يقع على عاتق الجمعيات الأهلية غير الحكومية بالدرجة الأولى .إن أزمة التعليم عندنا تكمن فى أن أصحاب المصلحة من حكومات وأساتذة وطلاب ومجتمعات المفروض أن تخدمها الجامعات لايتفقون على أهداف استراتيجية لنشر ثقافة جودة التعليم ، والمساعدة على تهيئة البيئة المناسبة لنشر وتطبيق المعرفة الأكاديمية والفكر الاستراتيجى ، ومساندة التواصل بين المؤسسات التعليمية فى المجتمع العربى، وتشجيع البحث العلمى والتطوير المؤسسة. لذلك ، لو تواجدت الجهات التى تدعم تلك الجهود ، وتحدد مستويات الجودة المطلوبة لكى تكون مدارسنا وجامعاتنا واقعا لاخيالا، وتقدم المشورة الفنية للنهوض بالمؤسسات التعليمية على اختلاف أنواعها ، وبناء القدرة الذاتية للمجتمع العربى ، وتبادل الخبرات المعرفية ، وتبنى الممارسات الناجحة، وتشجيع البحث العلمى .. لو تحقق ذلك لالتف الناس حولها ، ولساندوا جهودها .
إصلاح التعليم يمكن أن يتم على أكثر من مستوى ، وعلى خطوط متوازية محلية وإقليمية وعالمية . ولايضيرنا أن يكون هناك عشرات بل مئات من الجمعيات الأهلية التى تعنى بجودة التعليم طالما أن هذه الجمعيات تضم فى عضويتها نخبة من العناصر الفاعلة والمؤثرة ذات الخبرة فى التعليم سواء أكانوا أفرادا أم مؤسسات بما فى ذلك مراكز التدريب ذات المستوى الرفيع التى تكمل رسالة التعليم وتطوره إلى " تعلم " حقيقى نحتاجه لنطبق العلم على الواقع ، وتتسارع نبضات تحركاتنا على المسرح الدولى فنحتل مكاننا بين الدول المتقدمة ... وشتان مابين التعليم الذى يعتمد على حشو المعرفة فى الأدمغى، والتعلم الذى يستفيد من المعرفة فيجرب ويخطئ ويصيب فى عملية تعلم مستمرة تواكب التطور المستمر وتجعلنا أكثر تأهيلا لمواجهة تحديات العصر. المهم أن تنسق تلك الجهات جهودها وتصر على التواصل والاستفادة من الخبرات المتراكمة التى تحققت حتى الآن حتى لانعيد اختراع العجلة.
No comments:
Post a Comment