!
تبدأ قصة البحث الخطير الذى سنتناوله اليوم فى أكتوبر من عام 2004 حين قام " ريد مونتاجيو " عالم المخ والأعصاب المشهور بكلية بيلور للطب بنشر النتائج التى توصل إليها بإخضاع مجموعة من المتطوعين لعينات مختلفة من الإعلانات وصور المنتجات بينما يقيس رد فعل المخ عن طريق مايسمى "التخيل المغناطيسى الترددى" Magnetic Resonance Imaging (MRI)" حيث تتم عمليات تحليل شخصيات المستهلكين باستخدام حقول مغناطيسية شديدة القوة، تقوم عبرها أجهزة الرنين المغناطيسي بتتبع الهيموجلوبين الغني بالأكسجين والهيموجلوبين الخالي من الأكسجين في المخ؛ مما يعطي الباحثين صورة تفصيلية لحظية عن اتجاه وأماكن سريان الدم وأماكن الخلايا العصبية التي تنشط خلال تلك العملية. وتقوم الفكرة الرئيسية لمثل تلك الأبحاث على عرض بعض الصور أو الأفلام أمام شخص ما في نفس الوقت الذي يتم فيه مراقبة وتصوير ردود فعل المخ لهذه الصور عن طريق أجهزة طبية مثل أجهزة الرنين المغناطيسي الوظيفي FMRI التي منها يتم تحليل ردود الأفعال تلك ليبنى عليها تحليل مفصل للشخصية. وقد ظهر نتاجا لهذه الأبحاث أسلوب جديد للتسويق يدعى Neuromarketing أو التسويق العصبي، وهو الناتج التجاري لفرع البحث الطبي الجديد المزدهر المعروف باسم Cognitive Neuroscience أو علم الأعصاب المعرفي والذي ظهر في أواخر التسعينيات وولد بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة، حيث كان البروفيسور جري زالتمان ومساعدوه يقومون بمسح وتصوير عقول بعض الأشخاص من أجل الشركات الكبرى. أما الآن فتقود هذه الأبحاث جامعة أيموري بالولايات المتحدة بالتعاون مع معهد برايت هاوس لأبحاث السوق. وتظهر الدراسة التى قام بها مونتاجيو والتى تمت على 67 شخصا ونشرت نتائجها في 14 أكتوبر 2004 بجريدة "جورنال نيرون" ، أنه قد تمكن من أن يرصد نشاطا زائدا في الـ Medial prefrontal cortex أو القشرة الوسطية لمقدمة الفص الجبهي للمخ عند رؤية الصور التي أعجبتهم، وهذه هي المنطقة المرتبطة بما نفضل بل وإحساسنا بأنفسنا؛ مما يدل على أنه ربما يكون ولاؤنا للسلع بسبب ذوق السلعة أو شكلها، حيث قام خلال التجربة بتطبيق تكنولوجيا الرنين المغناطيسي على مستهلكى البيبسي والكوكاكولا. ومن خلال مراقبته لنشاط المخ مع كل منتج وجد أنه يزداد نشاط المخ في الجزء الذي يقوم بعمليات الإحساس بالطعم في حالة رؤية البيبسي، ولكنه مع منتج الكوكاكولا ازداد نشاط المخ في القشرة الوسطية لمقدمة الفص الجبهي، وتعليقا على ذلك يقول مونتاجيو: إنه غالبا ما تفوز بيبسى في اختبارات الطعم ولكن كوكاكولا تحقق مبيعات أكثر لأن العقل الباطن للمستهلك يكون متأثرا بصورة تمتلئ حياة وحركة للكوكاكولا، ولم يهتم أحد بقياس تلك العلاقة العصبية قبل هذا العالم.
وقد دفعت تلك الأبحاث مؤسسة كومرشيال ألرت - وهي مؤسسة تحارب تحويل المجتمع الأمريكي إلى مجتمع تجارى استهلاكي- في أوائل ديسمبر 2003- إلى إرسال خطاب رسمى إلى المركز الأمريكي للحماية من التجارب التي تجرى على الإنسان، يطالبون فيه بالتحقيق في آليات البحث بجامعة أيموري، وماإذا كانت تلك الأبحاث تخالف بالقوانين الفيدرالية التى تحدد المعايير المختلفة للأبحاث التى تجرى على الإنسان. والحقيقة المؤكدة فى كل ذلك أنه من الخطأ استعمال تكنولوجيات الرنين المغناطيسي في التسويق وليس للعلاج، خاصة أن أي زيادة ولو طفيفة في فاعلية الإعلان على البشر من الممكن أن تسبب أمراضا كثيرة بل قد تؤدي إلى الموت وزيادة معاناة البشرية، حيث ستكون وسيلة سهلة لدفع الناس لشراء منتجات غير صحية قد تنتج عنها زيادة كبيرة بالوزن، أو زيادة شرب الخمور،أو التدخين ، كما أن الأطفال يمكن أن يصبحوا فريسة سهلة للإعلانات لسهولة التأثير عليهم باستخدام التكنيك الجديد. وتعليقا على الجانب الأخلاقي للتسويق العصبي يقول جوناثان مورينو رئيس الجمعية الأمريكية للأخلاقيات الطبية والإنسانية "إن هذا نوع من تشويه علاقة السوق بين المنتج والمستهلك، فمن المفترض أن تكون هناك مستويات ومجالات للمداولة بين البائع والمشتري ولكن مع أسلوب التسويق العصبي لا يدع فرصة للمستهلك لخلق حاجز معلوماتي بينه وبين التجار. أما ريتشارد جليه بوار المستشار القانوني لمراكز أخلاقيات الحرية المعرفية بدافيس، كاليفورنيا فيقول: "إن التسويقيين حاولوا إثارة العقل الباطن بمنتجاتهم طوال هذا العقد، أما التسويق العصبي فيبدو أنه اقترب جدا من استخدام التكنولوجيا لقهر المستهلكين".
وعلى الجهة الأخرى يدافع مؤيدى هذا النوع من الأبحاث على مخ المستهلك بقصد التأثير المباشر عليه وبرمجته بأن التسويق العصبي يساعد على تلبية الحاجات الحقيقية للمستهلك، وإنه أفضل من أساليب التسويق التقليدية المعتادة التى تقوم على أبحاث السوق ، وسؤال عينات تمثل المستهلكين والى غالبا مالاتكون دقيقة نظرا لإن الكثير مما يحفز سلوكنا يحدث تحت مستوى الإدراك للشخص العادى فلا يستطيع فهم دوافعه. إن التكنيك الجديد فى نظر هؤلاء يعطى منتجى السلع معلومات أكثر دقة تشحذ بصيرتهم وتنبؤاتهم لمعرفة كيفية تطوير العلاقة مع المستهلكين للسلع التى ينتجونها، فالعقل ليس بهذه البساطة، والتسويق العصبي لن يغير الوضع لتجد المستهلكين يركضون مثل الإنسان الآلي لشراء المنتجات المعلن عنها بغض النظر عما يشعرون ويعتقدون، وأنه حتى بعد استخدام التسويق العصبي سوف يظل فهم سلوك المستهلك صعب التنبؤ به، فهو كالطفل المدلل الذي يصعب إرضاءه. ويعرف التسويق العصبي بأنه نوع من اختبار المستهلكين فبدلا من مجرد سؤال الأشخاص عما يريدون فهو يذهب مباشرة إلى العملية المخية لفهم رغباتهم.
ولكن يظل السؤال الحائر والمثير للقلق قائما : إلى أى مدى يمكن أن يغوص العلماء داخل عقولنا بغير أن نعلم ما الذي يبحثون عنه تحت ستار أبحاث بريئة فى ظاهرها ؟ أبحاث يكون ظاهرها معرفة ردود أفعالنا تجاه أشياء أو مواقف معينة، في حين أن الهدف الحقيقى هة استكشاف جوانب أخرى من شخصية من يقوم عليه البحث ، فإلى أين يأخذنا التطور المذهل في هذا المجال؟ وهل سيؤدي إلى أن تسيطر الشركات الكبرى على عقولنا وتسوقنا سوقا لشراء منتجاتها على غير إرادتنا؟ وهل ستقوم مراكز الأبحاث ببيع عقولنا لمن يريد أن يروج فكرا معينا ويحتاج لتجنيد أتباع يعتنقون أفكاره دون حتى محاولة التفكير؟ وهل نحن على مشارف عصر قد يدان فيه الناس لا على جرائمهم بل على استعدادهم للقيام بالجرائم؟
تبدأ قصة البحث الخطير الذى سنتناوله اليوم فى أكتوبر من عام 2004 حين قام " ريد مونتاجيو " عالم المخ والأعصاب المشهور بكلية بيلور للطب بنشر النتائج التى توصل إليها بإخضاع مجموعة من المتطوعين لعينات مختلفة من الإعلانات وصور المنتجات بينما يقيس رد فعل المخ عن طريق مايسمى "التخيل المغناطيسى الترددى" Magnetic Resonance Imaging (MRI)" حيث تتم عمليات تحليل شخصيات المستهلكين باستخدام حقول مغناطيسية شديدة القوة، تقوم عبرها أجهزة الرنين المغناطيسي بتتبع الهيموجلوبين الغني بالأكسجين والهيموجلوبين الخالي من الأكسجين في المخ؛ مما يعطي الباحثين صورة تفصيلية لحظية عن اتجاه وأماكن سريان الدم وأماكن الخلايا العصبية التي تنشط خلال تلك العملية. وتقوم الفكرة الرئيسية لمثل تلك الأبحاث على عرض بعض الصور أو الأفلام أمام شخص ما في نفس الوقت الذي يتم فيه مراقبة وتصوير ردود فعل المخ لهذه الصور عن طريق أجهزة طبية مثل أجهزة الرنين المغناطيسي الوظيفي FMRI التي منها يتم تحليل ردود الأفعال تلك ليبنى عليها تحليل مفصل للشخصية. وقد ظهر نتاجا لهذه الأبحاث أسلوب جديد للتسويق يدعى Neuromarketing أو التسويق العصبي، وهو الناتج التجاري لفرع البحث الطبي الجديد المزدهر المعروف باسم Cognitive Neuroscience أو علم الأعصاب المعرفي والذي ظهر في أواخر التسعينيات وولد بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة، حيث كان البروفيسور جري زالتمان ومساعدوه يقومون بمسح وتصوير عقول بعض الأشخاص من أجل الشركات الكبرى. أما الآن فتقود هذه الأبحاث جامعة أيموري بالولايات المتحدة بالتعاون مع معهد برايت هاوس لأبحاث السوق. وتظهر الدراسة التى قام بها مونتاجيو والتى تمت على 67 شخصا ونشرت نتائجها في 14 أكتوبر 2004 بجريدة "جورنال نيرون" ، أنه قد تمكن من أن يرصد نشاطا زائدا في الـ Medial prefrontal cortex أو القشرة الوسطية لمقدمة الفص الجبهي للمخ عند رؤية الصور التي أعجبتهم، وهذه هي المنطقة المرتبطة بما نفضل بل وإحساسنا بأنفسنا؛ مما يدل على أنه ربما يكون ولاؤنا للسلع بسبب ذوق السلعة أو شكلها، حيث قام خلال التجربة بتطبيق تكنولوجيا الرنين المغناطيسي على مستهلكى البيبسي والكوكاكولا. ومن خلال مراقبته لنشاط المخ مع كل منتج وجد أنه يزداد نشاط المخ في الجزء الذي يقوم بعمليات الإحساس بالطعم في حالة رؤية البيبسي، ولكنه مع منتج الكوكاكولا ازداد نشاط المخ في القشرة الوسطية لمقدمة الفص الجبهي، وتعليقا على ذلك يقول مونتاجيو: إنه غالبا ما تفوز بيبسى في اختبارات الطعم ولكن كوكاكولا تحقق مبيعات أكثر لأن العقل الباطن للمستهلك يكون متأثرا بصورة تمتلئ حياة وحركة للكوكاكولا، ولم يهتم أحد بقياس تلك العلاقة العصبية قبل هذا العالم.
وقد دفعت تلك الأبحاث مؤسسة كومرشيال ألرت - وهي مؤسسة تحارب تحويل المجتمع الأمريكي إلى مجتمع تجارى استهلاكي- في أوائل ديسمبر 2003- إلى إرسال خطاب رسمى إلى المركز الأمريكي للحماية من التجارب التي تجرى على الإنسان، يطالبون فيه بالتحقيق في آليات البحث بجامعة أيموري، وماإذا كانت تلك الأبحاث تخالف بالقوانين الفيدرالية التى تحدد المعايير المختلفة للأبحاث التى تجرى على الإنسان. والحقيقة المؤكدة فى كل ذلك أنه من الخطأ استعمال تكنولوجيات الرنين المغناطيسي في التسويق وليس للعلاج، خاصة أن أي زيادة ولو طفيفة في فاعلية الإعلان على البشر من الممكن أن تسبب أمراضا كثيرة بل قد تؤدي إلى الموت وزيادة معاناة البشرية، حيث ستكون وسيلة سهلة لدفع الناس لشراء منتجات غير صحية قد تنتج عنها زيادة كبيرة بالوزن، أو زيادة شرب الخمور،أو التدخين ، كما أن الأطفال يمكن أن يصبحوا فريسة سهلة للإعلانات لسهولة التأثير عليهم باستخدام التكنيك الجديد. وتعليقا على الجانب الأخلاقي للتسويق العصبي يقول جوناثان مورينو رئيس الجمعية الأمريكية للأخلاقيات الطبية والإنسانية "إن هذا نوع من تشويه علاقة السوق بين المنتج والمستهلك، فمن المفترض أن تكون هناك مستويات ومجالات للمداولة بين البائع والمشتري ولكن مع أسلوب التسويق العصبي لا يدع فرصة للمستهلك لخلق حاجز معلوماتي بينه وبين التجار. أما ريتشارد جليه بوار المستشار القانوني لمراكز أخلاقيات الحرية المعرفية بدافيس، كاليفورنيا فيقول: "إن التسويقيين حاولوا إثارة العقل الباطن بمنتجاتهم طوال هذا العقد، أما التسويق العصبي فيبدو أنه اقترب جدا من استخدام التكنولوجيا لقهر المستهلكين".
وعلى الجهة الأخرى يدافع مؤيدى هذا النوع من الأبحاث على مخ المستهلك بقصد التأثير المباشر عليه وبرمجته بأن التسويق العصبي يساعد على تلبية الحاجات الحقيقية للمستهلك، وإنه أفضل من أساليب التسويق التقليدية المعتادة التى تقوم على أبحاث السوق ، وسؤال عينات تمثل المستهلكين والى غالبا مالاتكون دقيقة نظرا لإن الكثير مما يحفز سلوكنا يحدث تحت مستوى الإدراك للشخص العادى فلا يستطيع فهم دوافعه. إن التكنيك الجديد فى نظر هؤلاء يعطى منتجى السلع معلومات أكثر دقة تشحذ بصيرتهم وتنبؤاتهم لمعرفة كيفية تطوير العلاقة مع المستهلكين للسلع التى ينتجونها، فالعقل ليس بهذه البساطة، والتسويق العصبي لن يغير الوضع لتجد المستهلكين يركضون مثل الإنسان الآلي لشراء المنتجات المعلن عنها بغض النظر عما يشعرون ويعتقدون، وأنه حتى بعد استخدام التسويق العصبي سوف يظل فهم سلوك المستهلك صعب التنبؤ به، فهو كالطفل المدلل الذي يصعب إرضاءه. ويعرف التسويق العصبي بأنه نوع من اختبار المستهلكين فبدلا من مجرد سؤال الأشخاص عما يريدون فهو يذهب مباشرة إلى العملية المخية لفهم رغباتهم.
ولكن يظل السؤال الحائر والمثير للقلق قائما : إلى أى مدى يمكن أن يغوص العلماء داخل عقولنا بغير أن نعلم ما الذي يبحثون عنه تحت ستار أبحاث بريئة فى ظاهرها ؟ أبحاث يكون ظاهرها معرفة ردود أفعالنا تجاه أشياء أو مواقف معينة، في حين أن الهدف الحقيقى هة استكشاف جوانب أخرى من شخصية من يقوم عليه البحث ، فإلى أين يأخذنا التطور المذهل في هذا المجال؟ وهل سيؤدي إلى أن تسيطر الشركات الكبرى على عقولنا وتسوقنا سوقا لشراء منتجاتها على غير إرادتنا؟ وهل ستقوم مراكز الأبحاث ببيع عقولنا لمن يريد أن يروج فكرا معينا ويحتاج لتجنيد أتباع يعتنقون أفكاره دون حتى محاولة التفكير؟ وهل نحن على مشارف عصر قد يدان فيه الناس لا على جرائمهم بل على استعدادهم للقيام بالجرائم؟
No comments:
Post a Comment