موضوع خطير أردت أن أنبه إليه بعد أن تفشى كظاهره أنشئت من أجلها مراكزا مختلفة للتدريب فى أنحاء العالم العربى ، وخصصت لها محطات فضائية تروج لأفكارها الهدامة . أقول ذلك بعد أن لاحظت أن بعض المحطات الفضائية المصرية قد أصابتها العدوى فخصصت ساعات طويلة من إرسالها لتستضيف من يدعون أنهم علماء متخصصون فى تعليم المنهج الجديد للتفكير والاتصال والذى يعالج كل مشاكل البشرية بما فى ذلك الأمراض العصبية . وسواء أكان هذا الوقت إعلانات مدفوعة أم برامج خدعها الكلام البراق واللافتات الخادعة والتمسح بسطحية شديدة فى الدين والتى يجيد استخدامها من أضافوا إلى أسمائهم ألقابا ودرجات علمية منحوها لأنفسهم اعتمادا على أن أحدا لن يدقق فيما إذا كانوا حقيقة خبراء وأساتذة " وعالميين " من عدمه. وأعنى بهذا مايسمى ب NLP أو " البرمجة اللغوية العصبية " . وحتى يكون كلامنا علميا فإنه من المناسب أن نعطى فى البداية لمحة سريعة للجذور التاريخية لهذا المنهج التجريبة الذى لم يرتقى أبدا ألى مرتبة العلم أو النظرية التى مرت بمراحل التجريب العلمى حتى استقرت نتائجها بما يسمح بتطبيقها.
بدأت الحكاية فى منتصف السبعينيات بتجارب أجراها جون جريندر أستاذ اللغويات بجامعة كاليفورنيا فى سانتا كروز ومساعده ريتشارد باندلر أستاذ الرياضيات ، واللذان كانا يجمع بينهما اهتمامات مشتركة بعلم النفس واللغة وبرمجيات الكمبيوتر . ومنذ ذلك التاريخ لم يحدث أن قام أحد العلماء المتخصصين بإجراء أية بحوث جادة لإثبات أى من " النماذج " السلوكية النمطية التى اعتمدت عليها تلك التجارب فى محاولة لإثبات تأثير وتأثر الاتصال بالحالة الجسمانية والعصبية . ولو تفحصنا المحاولات التى تلت تلك المرحلة الأولية للاحظنا تشكيلة عجيبة من الباحثين فى مجالات مختلفة ومعقدة جميعها تنم على مدى خطورة السطحية الشديدة التى يتم بها تناول هذا الموضوع الخطير ، والشكل الذى يمكن أن يتطور إليه لو ترك الحبل على الغارب . نجد مثلا أن فيرجينيا ساتير أخصائية نفسية ، وأن فرتز بيرل صاحب النظرية الكلية النمطية فى الفهم ، وجريجورى باتسون الباحث الاجتماعى ، وأخيرا ملتون إيركسون المتخصص فى التنويم المنغناطيسى ، وهو صاحب أقوى التأثيرات على مايقوله المبشرون الجدد بالبرمجة العصبية والذى يروجونه كما قلنا على أنه العلاج لكل المشاكل العصبية والعقلية للناس . ويدعى مروجو المنهج فى لغة غامضة غير مفهومة بأنهم قادرون على مساعدة من يخضعون لحيلهم وألاعيبهم لأن يتغيروا عن طريق تعليمهم كيف "يبرمجون" عقولهم. ويدعون فى وقاحة بأن الله قد أعطانا العقول ولكنه لم يعطنا معها الكتالوج الذى يتيح لنا أن نديره بكفاءة ، وأنهم قادرون – بحكم دراستهم للبرمجة اللغوية العصبية – قادرون على أن يمدونا بالكتالوج المطلوب الذى يطلقون عليه " برنامج إدراة العقل " على نمط برامج الكمبيوتر المتداولة . وبهذه الطريقة يوقعون فى حبائلهم آلافا من المساكين الذين يعانون من بعض الأمراض العصبية التى تحتاج إلى طبيب متخصص لعلاجها وليس إلى مشعوذين يسيطرون على عقول ضحاياهم بكلام معسول وقصص مختلقة تثبت قدراتهم الخارقة فى " معالجة " العديد من المشاكل الشخصية التى يعانى منها الناس ، فيلتحقون بالبرامج التدريبية التى ينظمونها فى كثير من الدول وتأخذ طابع الرحلات إلى أماكن غريبة معظمها لشعوب لادين لها وتتبع فلسفات غريبة مثل الهند والصين واليابان وغيرها.
ويخضع هؤلاء الأفاقون الناس بأساليب العلاج التنويم المغناطيسى ، والسيطرة على اللاشعور ، وكثير من الطرق التى اتبعها فرويد والتى وردت فى كتابه الشهير " تأثير الأحلام " عن تأثير العقل الباطن على العقل الواعى ، والحالات التى أوردها عن المرضى النفسيين الذين عالجهم . وغالبا مايقوم بالعرض " متحدث بهلوان " يأتى بحركات عصبية بيديه ورجليه ووجهه وعينيه ، بل إن أحدهم يعانى هو نفسه من اختلال عصبى يجعله يأتى بحركات لاإرادية بوجهه ورقبته أثناء حديثه بسرعة عصبية غير عادية لاتمكن أحدا من تتبع مايقول أو استيعابه أو فهمه. على مسرح أمام عدد من الناس يعلمهم كيف ينومون أنفسهم تنويما مغناطيسيا ليصلوا إلى مرحلة من السمو الروحى ، والانسجام مع الذات ، والتوحد مع الطبيعة، وكيف يستمدون الطاقة الكونية لكى تزداد قدراتهم وقوة تحملهم ، ويكسبهم مهارات خارقة فى التعامل مع الآخرين وكسب تأييدهم ، ويضاعف من احترامهم لأنفسهم ، ويوسع مداركهم واستيعابهم للأمور ، وينمى قدراتهم الإدارية ، وفعاليتهم وكفاءتهم فى إدارة أعمالهم وشئون حياتهم . وليس ذلك فقط وإنما اكتساب قدرات خارقة لمعرفة من يكذب عليهم بمجرد النظر إليه ، وأمثال ذلك من الخرف والتهريج الذى لاتحده ضوابط علمية . يعنى ببساطة أن من يحضر برنامجا تدريبا ليومين أو ثلاثة على أيدى هؤلاء الأفاقين لايحتاج إلى إلى العبادة ولا التعليم ولا القراءة ولا المعرفة حيث قد اصبح مسلحا " ببرنامج داخلى " يغنيه عن كل ذلك . ومن الادعاءات الخطيرة لهؤلاء الناس أن أى شخص عادى لايتمتع بأى قدرات خاصة يمكن أن يكون اينشتين أو بافاروتى أو بطلا من أبطال الأولمبياد لو تعلم كيف يبرمج عقله بعد أن يحضر برنامجا تدريبيا واحدا ويسدد المعلوم . الموضوع فى النهاية لايخرج عن كونه نوع من الرياضات الروحية عن طريق التأمل والإتيان بحركات اليوجا وترديد أقاويل وشعارات بوذية فلسفية تبهر المستمعين وقد تسليهم ، ولكنها بالقطع تضيع وقتهم وأموالهم ، وتصرفهم عن الانصراف إلى شئون حياتهم وممارستها بشكل طبيعى ، أو اللجوء إلى طبيب نفسى متخصص إذا كانوا يعانون من مشاكل تحتاج لهذا النوع من العلاج .
No comments:
Post a Comment