المتابع للشأن السياسى والتنمية
المجتمعية مثلى يجد أن الهند والصين ودول جنوب شرق آسيا لم تحقق الطفرة الإقتصادية
والإجتماعية التى حققتها سوى بالإهتمام بتحسين جودة الناس فى تلك البلدان وتنمية
مهاراتهم الفنية ليس فقط فى التخصصات المختلفة التى تحتاجها الدولة لكى تنهض
ويزدهر اقتصادها ويصبح لها "ميزة تنافسية" تجعلها لاتكتفى بالتواجد على
المسرح الدولى تنافس على جزء من اقتصاديات السوق، وإنما الجدارات الشخصية التى
تنعكس على سلوك الفرد فى التزامه وانتمائه وجودة عمله ومشاركته بالتفكير وإطلاق
ملكاته ومواهبه .. ترجمت تلك الدول بحق معنى الإستثمار فى رأس المال البشرى إلى
واقع فانعكس ذلك على نموها الإقتصادى وعلى قدرتها التنافسية وعلى غزوها لبلاد
الدنيا شرقا وغربا بمنتجاتها وعمالتها وحتى تقدمها التكنولوجى على بلدان سبقتها
بعشرات السنين مثل الولايات المتحدة فى تكنولوجيا المعلومات حتى باتت تعتمد فى
أكثر من 80% من صناعة التكنولوجيا على تلك البلدان وبالذات الهند التى أصبح إسم
ولاية "بنجالور" فيها اسما متداولا فى كل أروقة الشركات العملاقة فى
صناعة تكنولوجيا المعلومات فى أمريكا.
فى مصر أهملنا "صناعة تطوير
البشر" وبدا الأمر فى بعض مراحل تاريخنا الحديث كما لو كان هناك إهمال منهجى
متعمد لإفقار الناس والحفاظ على جهلهم وأميتهم حتى يسهل قيادهم ولاينشغلوا بشيئ
سوى لقمة العيش وإنهاك قواهم وطاقاتهم فى الجرى بلا بلا توقف لالتقاط الأنفاس
لتوفير الحد الأدنى من مستوى المعيشة دون الإلتفات لشيئ آخر وجعل ذلك هدفا أسمى
للحياة يشعرهم بالسعادة كل ليلة ماداموا قد نجحوا فى توفير قوت اليوم .. واقع مرير
عشناه ولازلنا وآن له أن يتغير بعد الثورة التى ظهر فيها المعدن الأصيل لهذا الشعب
وجينات الحضارة التى بداخله وإرادة التوحد عند الخطر .. ولاشك عندى الآن من أن تلك
الصفات كانت وراء التجريف الممنهج فى عهد مبارك ولأكثر من ثلاثين عاما للشخصية
المصرية ومعها موارد الدولة ومصادر قوتها، ولعله أيضا وراء يقينى بأن من يريد أن
يحكم هذا الشعب منفردا أو بإملاء الإرادة أو بالقهر سوف يبقى الحال على ماهو عليه
لمواجهة التهديد الذى يمثله شعب واع بحقوقه ولديه العلم والإرادة للتخطيط
لانتزاعها.. ولعل ذلك أيضا يفسر كيف تلعب الكتل الإنتخابية من شعب هذا حال أكثر من
80% من مواطنيه فى ترجيح كفة من يجيد الوصول إلى تلك الكتل ويلتصق بها ويلبى
احتياجاتها البسيطة ويحقق أحلامها التى لاتتجاوز أبسط حقوق الإنسان فى معيشة كريمة
لاتمتهن فيها كرامته، كما يفسر كيف تحولت مصر إلى معتقل كبير لكل صاحب رأى حر أو
معارض شريف من النخبة يمثل تهديدا للحاكم ويدعو إلى الخروج عليه.
إنعكس كل ذلك على سلوك المصريين
وتغيرت قيم كثيرة كانت تحفظ لهذا المجتمع تماسكه ووحدته وضعفت مناعة الناس لتقبل
الإختلاف وتحولت مصر إلى ساحة للصراع والتقاتل وفرض الإرادة وامتلأت الأفواه
بألفاظ لم تكن سائدة وأمسكت الأيدى بأسلحة لم تكن موجودة وزادت الهوة بين نخبة
منفصلة عن الشارع الذى يعانى من زلزال التغيير وتوابعه فلا يستطيع حاليا أن يقف
متزنا يقيس خطواته أو حتى يفكر فى مستقبله، وبين شارع بركانى الحركة يموج فى داخله
باللهب ويهدد بين الحين والآخر بالإنفجار لكى يحرق كل مايعترض طريقه .. اختفى
العقل وحل محله أسلوب الغاب، واستسلم الناس لإغراء عدم العمل تحت وهم أنهم بالصياح
وحده وبالإعتصام والإشتباك وفرض الإرادة وإقصاء الآخر يمكن أن يغيروا الواقع من
حولهم .. ووجد نهازوا الفرص من السياسيين ومعهم قوى سياسية خارجية تملك من أدوات
التأثير والمعلومات والخبرة مايمكنها من تنفيذ مخططات تخدم أهدافها ومصالحها الأرض
ممهدة لإشعال حرائق الكراهية والحقد والغل والرغبة فى الإنتقام والتدمير بين أبناء
الوطن الواحد الذين ابتلع بعظهم عن رضا الطعم وسهل لهؤلاء مهمتهم ولم يتحصن بالعقل
يرصد ويحلل ويخرج بنتائج يحدد على أساسها بوصلته واتجاهه.
من هنا أدعو إلى إنشاء "مجلس
قومى للتنمية البشرية" يجمع كل المبادرات الفردية أو المؤسسية التى فى مصر فى
كيان واحد عملاق تكون مهمته الإستراتيجية الإستثمار فى راس المال البشرى الموجود
فى مصر وتحويله إلى طاقة جبارة مسلحة بالعلم والمعرفة والخبرة والمهارات نحتاجها
لبناء مصر المستقبل، وتحول المصريين إلى "ميزة تنافسية" وقاعدة لإطلاق
الصواريخ العابرة للقارات يستعيدون مجد مصر القديم فى تصدير الأطباء والمهندسين
والحرفيين والمعلمين للعالم .. وأزعم أن مثل هذا المجلس بما يتوافر لدينا من علماء
ودارسين وإمكانات متوافرة للدولة لم تستغل بالكامل حتى الآن سوف يكون قادرا على
رسم خطة استراتيجية تحول المصريين إلى قوة بشرية ضاربة ورأس مال فكرى ينمو باضطراد
.. مثل هذا المجلس يمكن أن يكون مصنعا مادته الخام هو الإنسان المصرى وناتجه مواطن
مشارك وليس متفرجا، مبادر وليس سلبيا، متعلم وليس جاهلا، محفز وليس مسترخيا، يعلى
قيمة العمل على الكلام ، ويصر على قطع المسافات ولايعبأ بالعقبات التى تعترض طريقه
.