Monday, September 29, 2008

فقه الواقع والتطبيق العملى لفن الإدارة

هناك شخصيات مصرية وعربية لم تدرس الإدارة، ولم يتح لها سوى مستوى متواضع من التعليم مثل سيد جلال ومحمود العربى وصالح كامل ، ومع ذلك حققوا فى إدارتهم لمشروعاتهم مستوى رفيع من الأداء جعلهم يتساوون إن لم يتفوقوا على نظرائهم من أصحاب إمبراطوريات الأعمال العالميين والمنظرين لعلم الإدارة . مثل هؤلاء عصاميون بدءوا من تحت الصفر (إثنين بدءوا حياتهم حمالين والثالث عامل بسيط فى محل صغير فى الموسكى ) يتمتعون بذكاء فطرى ، يتعلمون الإدارة بالممارسة ، ويستفيدون من أخطائهم ، ويراقبون بوعى حركة السوق من حولهم ، ويقتنصون الفرص المتاحة لتنمية مشروعاتهم قبل أن ينتبه إليها غيرهم من المنافسين . لم يدرسوا علم الإدارة ولكنهم يملكون فنونا وجدارات شخصية قد يفتقدها حملة الدرجات العلمية ممن اكتفوا بالتعليم دون التعلم (الفرق بين الإثنين هو الخبرة العملية عن طريق التجريب) مثل وضوح الرؤية والإصرار وحسن اختيار المعاونين ومتابعة حركة السوق والتفانى فى خدمة العميل. تعالوا نأخذ أمثلة للواقع العملى الذى نعيشه ويمثل " البيئة " التى تحيط بصاحب القراروالإطار المحدد للقرارات التى يتخذها. صاحب القرار فى الأمثلة التى سوف أطرحها له أن يجعل الإطار مرنا يستوعب حلولا ابتكارية للمشكلات والمسائل التى يتعامل معها ، أو قالبا من الصلب يحدد حركته ويشل تفكيره فى حيز ضيق لايتجاوزه:

صدر قانون المرور دون دراسة كافية وتم اختزاله فى أمرين : جباية مايوازى دخل قناة السويس إسهاما من أصحاب السيارات والسائقين فى تجميل ميزانية الدولة دون أى التزام من الدولة بتحسين الطرق ولا الخدمات التى تقدمها نظير ماتحصله من رسوم ، وشنطة إسعاف إحتار فى فهم دوافعها وفائدتها عتاولة الباحثين . ولازالت توابع القانون العجيب تتوالى . مثلا صدر القانون ينظم استخراج لوحات جديدة طبقا للتقسيم الإدارى لصاحب السيارة دون أن يكون هناك لوحات جاهزة أصلا أو تاريخ محدد لاستبدال اللوحات القديمة بأخرى بالمواصفات الجديدة. والنتيجة أن كل السيارات الجديدة التى تسير فى شوارع مصر حاليا تحمل أرقاما مؤقتة يعدها صاحب السيارة بنفسه ويدفع تكلفتها ، ثم يمنح ترخيص سير مؤقت يجدد كل 3 شهور حتى يحين الفرج وتتوافر اللوحات التى نص عليها القانون . طبعا من الغباء أن نسأل : لماذا لم يعلق تنفيذ القانون فيما يختص بالمخالفات التى طبقت فى الحال دون أى تأخير بمجرد صدور القانون ؟ السبب واضح وهو يفسر الهدف الإصلى من صدرور القانون ، وكل مايقال بعد ذلك عن الانضباط والإلتزام مجرد عمليات تجميل للوجه البشع النكد للحكومة.
أصابتنى كريزة ضحك وأنا أطالع صحف الصباح ، ولما شاهدت نظرات الشك فى عيون زوجتى أشرت عليها بقراءة أخبار بالصفحة الأولى تؤكد على أن سبعة لجان كانت قد شكلت أنتهت بحمد الله من وضع المواصفات القياسية للمثلث العاكس الذى يقضى قانون المرور بوضعه فى كل سيارة. الطول والعرض بكسور السنتيمتر، وتحمله لدرجات الحرارة ، ومقاومته للإنحناء والتقوس ، ومقاومته للرياح . هل يحتاج هذا الخرف إلى تعليق ؟ هل هناك مستورد آخر استورد كمية تنطبق عليها تلك المواصفات ، وهل السيارات الجديدة والمزودة بمثلثات عاكسة ينبغى لها أن تعتمد تلك المثلثات من جهة ما ، وماهى هذه الجهة ؟ والأهم من ذلك من الذى سوف يراجع تلك المواصفات ومتى وأين ؟ وهل سيزود رجال المرور بأدوات تسمح لهم بقياس أبعاد وطول وعرض المثلثات فى حملاتهم ؟ هل هناك تهريج أكثر من هذا ؟ لقد صدر قانون المرور كما قلنا منذ شهور، وللآن تشكل اللجان لوضع مواصفات شنط الإسعاف والمثلثات؟ مثال حى على خضوع القانون لفقه الواقع بدلا من أن يطوع الواقع لفقه القانون بالتأكد من توافر أدوات تنفيذ القانون قبل صدوره والعمل به.

مايسمى بالإكراميات فى مصر أصبح ابتزازا مقننا فى معظم إن لم يكن كل المصالح الحكومية فى مصر وأولها وحدات المرور . الموظفون خلف الشبابيك لايتقاضون فقط الإكراميات وإنما يفاوضون عليها. وفى بعض وحدات المرور يخصصوص موظف أو موظفة يتجمع لديها مايدفعه الوسطاء بالإنابة عن أصحاب المصالح لكى يتم توزيعها فيما بعد على كل الموظفين . والسؤال الطبيعى هنا : هل يمكن أن يحدث ذلك دون علم أو دراية رئيس وحدة المرور الذى يجلس فى مكتبه ويضع حارسا على بابه يمنع الناس من مقابلته ويكتفى بوضع الختم على التراخيص والأوراق المطلوب اعتمادها ؟ لو صح ذلك فلابد أن يكون رئيس العمل إما أعمى أو أطرش لايرى ولايسمع ، أو أنه أوهم نفسه أن مايسمعه أو يراه محض أوهام لاوجود لها فى الواقع . وقد يقول قائل : هل وصلته شكوى لم يحققها ؟ والإجابة طبعا لم يحدث ، ولكن السبب ليس عدم رغبة من يتم ابتزازهم فى الشكوى ولكن لأن رئيس الوحدة المسئول جعل من المستحيل أن يصل إليه أحد وكأنه يقنن دون أن يلتزم بذلك كتابة وضعا فرضه الموظفون أنفسهم واقعا وقبله هو صاغرا. وسوف يستمر الوضع على ماهو عليه طالما أن القيادات لايفاجئون تلك الوحدات متخفين فى ملابس مدنية دون أن يعلنوا عن أنفسهم أو يحددوا وقت الزيارة . لو فعلوا ذلك واكتفوا بالمراقبة من بعيد سوف يتأكدون مما أقول وأكثر منه دون عناء . نسمى ذلك فى علم الإدارة " الإدارة بالتجوال " وهى الطريقة المثلى للتعرف على الحقيقة من خلال زيارة مواقع العمل والاختلاط بالجمهور.

الأهداف التى أعلنتها وزارة التنمية الإدارية لتحديث العمل بوزارات مصر يقابلها مقاومة مستميته من الموظفين أنفسهم ومن الوسطاء الذين يبررون وجودهم بجهل جمهور المترددين على المصالح الحكومية . هؤلاء يعيشون على الأوراق ، ويسمنون من الطوابع التى تلصق عليها بزعم توفير " شحططة " طالب الخدمة من شباك إلى شباك وفى كل مرة يطلب منه شيئ جديد. سوف يقاوم هؤلاء التحديث واستخدام الحاسب الآلى بكل ماأوتوا من قوة حتى لاينتظم العمل ويتم إنجاز الخدمات فى وقت أسرع ، وبالتالى سوف يقاومون التدريب على الكمبيوتر، ولو أرغموا على التدريب سوف يهملون صيانة الأجهزة حتى تتعطل . ولكن المرء يعجب من عدم استخدام اختراع بدائى بسيط يتلخص فى وضع قائمة بالأوراق المطلوبة لك خدمة فى مكان ظاهر وخط واضح ( لو افترضنا الإصرار على كتابتها باليد ) ومعها تكلفة الخدمة ومكان سدادها وموعد استكمال أداء الخدمة بالتحديد . حتى هذا الإجراء الإدارى البسيط كسل المسئولون عن عمله وربما يعتبرونه أفشاء لأسرار العمل التى ينبغى أن تكون قاصرة عليهم وعلى موظفيهم دون أى اعتبار لأصحاب المصالح والحاجات من الناس الذين هم فى الواقع سبب احتفاظهم بوظائفهم ، ويمكن – فى بلاد تقدر قيمة المواطن – أن يفقدوها إذا تقاعسوا عن خدمتهم .

بالمناسبة لماذا لاتسن قوانين تتيح للمواطن أن يقاضى الجهة التى تتقاعس فى تقديم الخدمة والتى يترتب عليها تعطيل مصالحه أو إلحاق الضرر به أو بممتلكاته سواء أكانت سيارة يقودها فى شوارع كلها مطبات وحفر، أو انقطاع المياه أو الكهرباء لفترات طويلة وبحجج سخيفة واهية ، أو التباطئ والتسويف فى تقديم الخدمة ، وأن يعوض المواطن عن الخسارة التى لحقت به نتيجة لذلك ؟ هناك جمعيات لحماية المستهلك ضد الغش التجارى أو الإفتئات على حق العميل، فلماذا لاننشئ فى كل مصلحة حكومية وحدة شبيهة تتبع رئيس المصلحة مباشرة تحقق فى تعسف الموظفين مع طالبى الخدمة من الجمهور فى الحال حتى لاتتعطل مصالح الناس . أعلم أن هناك إدارات بكل مصلحة حكومية تسمى " خدمة الجماهير " أو " العلاقات العامة " ولكنها تبقى بلا سلطة ولا توصيف وظيفى واضح يحدد مهامها التى تقتصر على تلقى الشكاوى المكتوبة وعرضها على المسئولين أو تولى إعلانات التهانى والتعازى لزوم تلميع المسئول.

علم الإدارة يواجه تحديات عظيمة فى دول العالم "الغير مصنف" ونحن منهم، يحتاج إلى فهم الواقع بكل مساوءه ومحدداته لكى يخرج بفكر جديد يعالج السلبيات الكثيرة بفقه جديد يتعامل مع الواقع ويخضعه لقواعد العلم دون أن يسمح باختطاف العلم من قبل قراصنة وزارات الخدمات الذين يجلسون خلف شبابيك وأمامهم أختام يجعلونها متاحة فقط لمن يدفع ، ويحجبونها عمن يتمسكون بالإلتزام – إما عن سذاجة أو جهل – بسداد الرسوم المقررة فقط.

لقطات بعيون مدير رحالة

أنتمى إلى مدرسة تؤمن وتدعو إلى أن تعلم الإدارة عملية دائمة لاتتوقف عند دراسة علم الإدارة وإنما تتجاوز ذلك بالملاحظة لما يدور حولنا من تعاملات يومية فى المنزل والشارع ومكان العمل. إلإدارة عندى علم لاينفصل عن الواقع من أول " إدارة الذات " حيث يمكن لكل منا أن يكتشف قدراته ويخطط لكى يزيد من تلك القدرات لكى يزيد فرصه فى تحقيق أهدافه فى الحياة، إلى " إدارة الموارد المتاحة " وإعلاء قيمتها لكى تحقق أعلى عائد ممكن لو أحسن استغلالها على المستويين الشخصى والمهنى . لذلك فإنى حين أسير فى الشارع أو أسافر فى مهمة أو أحتك بجهة ما لإنهاء مصلحة أو أشارك فريق عمل فى مشروع من المشروعات أتحول كلى إلى كاميرا لاقطة لكل مايدور حولى ، ويتحول عقلى إلى مصنع يعمل بكامل طاقته لكى "يشغل" ماأرى وماأسمع إلى معان محددة تفسر بوضوح سلوك ومواقف الناس . ولطالما نصحت طلابى بالاستشهاد بأمثلة واقعية نابعة من خبراتهم الشخصية فى التعبير عن وجهة نظرهم باعتبار أن ذلك تثبيت للمعلومات النظرية التى يتلقونها فى قاعات الدرس. وليسمح لى القارئ أن أشاركه بعضا من المواقف ذات الدلالة التى نصادفها فى حياتنا اليومية، والتى لو توقفنا عندها بالتحليل البسيط لانقلبت إلى دروس واقعية فى حسن الإدارة أو سوء الإدارة :

· يطل منزلى على مستشفى القوات المسلحة بالمعادى وبينهما شارع بعرض 30 مترا، وقد اشتهرت لدى مطافى المنطقة وإدارة المستشفى لكثرة إبلاغى عن الحرائق التى كانت تشتعل بين الحين والآخر فى البوص الذى كان يغطى مساحة كبيرة مهملة خلف المستشفى. لم أكتفى بالطبع أن أطالب أو أشكو بل أردت أن أضرب مثلا فى الإيجابية والحفاظ على البيئة فقمت بشراء ستة أشجار كبيرة على نفقتى الخاصة تمت زراعتها فى الشارع خلف سور المستشفى بالإضافة إلى أشجار الشارع المعتادة. ولقد ظللت ألح – بحكم التخصص – على إدارة المستشفى لاستغلال تلك المساحة المهدرة بلا عائد، وكم أسعدنى أنه منذ سنوات تم تخطيط المنطقة وزراعتها بشكل جميل يليق بالمستشفى ومكانته، حتى فوجئت أخيرا بأحد الجنود يصاحبه إثنين من الجناينية يقطعون الأشجار تنفيذا لأوامر تلقوها . ولما سألنا عن السبب قيل لنا حتى لاتستغل الأشجار فى الدخول إلى المستشفى أو الخروج منه بطرق غير مشروعة. والسؤال هو مادخل قطع الأشجار بتأمين سور المستشفى الذى تحيط به الأبراج السكنية من كل جانب ؟ السور يحتاج إلى حراسة إذا كان فعلا يمثل تهديدا للأمن أما قطع الأشجار فلايمكن أن يؤدى إلى تأمين المستشفى بأى حال؟ أليس كذلك.
· وبمناسبة الشجر تعرضت سيارة صديق لحادث سقوط شجرة فوقها ، ولما أيقظه حارس العقار وهرول مسرعا لمكان الحادث وجد مجموعة من المتنطعين يتفرجون دون أن يحرك أحد منهم إصبعا لكى يساعد فى رفع الشجرة عن السيارة التى تحطمت تماما. ووقف صديقى حائرا لايدرى ماذا يفعل ، وإذا بشخص يقترب منه قائلا : " نساعدك بس تراضى الرجالة؟" وطبعا وافق صديقى ، ولما حاول "إرضاء الرجالة" اتضح أنهم لايرضون بسهولة ودخلوا معه فى وصلة ابتزاز نظير مافعلوا. أين اختفت المروءة والشهامة من الشارع المصرى ؟ لايمكن أن يكون ذلك بسبب الحاجة، وإنما لأن القيم تغيرت فى مصر، وأصبح السلوك الإنسانى الفطرى الطبيعى تاريخا نحدث عنه أبناءنا وأحفادنا.
· عاد أبطال "الباراأولمبياد" المصريين باثنتى عشرة ميدالية موزعة بالعدل (4 ذهبية ، 4 فضية ، 4 برونزية) بينما عادت بعثة الأولمبياد الموسعة إلى بكين قبلهم بميدالية برونزية يتيمة. الفرق فى الإنجاز بين البعثتين فى نظرى هو الفرق بين حسن الإدارة وسوء الإدارة. فى الحالة الأولى تحولت الإعاقة إلى عزيمة وإصرار وحسن استعداد بإمكانات محدودة أحسن استغلالها وتعظيم قيمتها، وفى الحالة الثانية بددت الموارد السخية المتاحة وصرف 40 مليونا وذهب اللاعبون إما فى حالة من الاسترخاء، أو عدم الاهتمام ، وبالقطع دون إعداد جيد ، واشتبك الإداريون فى معارك شخصية لم ترعى حرمة علم مصر. بالمناسبة ، أين نتائج التحقيق الذى يتولاه بتوجيه من رئيس الدولة وزير مجلسى الشعب والشورى منذ عودة بعثة الأولمبياد ؟ ترى هل نحتاج إلى حكم مستورد يخبرنا الحقيقة فى أسباب الفشل والنجاح حتى لو تقاضى 10% أتعابا من الملايين التى صرفت على من لايستحق ؟
· مصر أصبحت " مشحتة " كبيرة . أعلم أن أكثر من نصف سكان المحروسة يعيشون إما على خط الفقر أو تحته بكثير، ولكن مايسيؤنى هو أن المطلوب ممن يبدو عليه الستى أن تظل يده فى جيبه وهو يسير فى الشارع أو يقف فى إشارة مرور أو يهم بركوب سيارته بأنماط مختلفة من المتسولين من حاملى المقشات الذين يتظاهرون بتنظيف الشارع إلى بلطجية المواقف من المنادين الذين يبيعون الشارع لحسابهم أو من حملة الأطفال لزوم الاستعطاف والتوسل . فى مصر قوانين تحارب التسول ، وهناك وزارة كاملة يرأسها وزير لم يعد يفعل شيئا هو وموظفى وزارته إلا حل مشكلة رغيف العيش التى تزداد سوءا يوما بعد يوم . الدولة ملزمة بضمان العيش الكريم ممن يستحق من أبنائها الغير قادرين على العمل ، إلى جانب الجمعيات الأهلية الرسمية التى تساعد فى هذا الشأن ، ولكنها أيضا مسئولة عن القبض على محترفى التسول وعقابهم وتأهيلهم وتعليمهم حرفا يتكسبون منها بعد الإفراج عنهم ومتابعتهم حتى لايعودوا للتسول . من حقى كمواطن أن أعيش حياتى بلا مضايقات أو محاولات ابتزاز أو تنطع فى كل خطوة أخطوها. المشكلة الأعقد أن بعض موظفى الوزارات الخدمية بالدولة يفعلون نفس الشيئ لإنهاء مصالح الناس . الإسم الشائع هو " الرشوة " أو الإكرامية والإسم الصحيح هو " التسول تحت ستار الوظيفة " مثل موظفى الخزينة الذين يحتفظون بالباقى لعدم وجود فكه ، أو من يبيعون الطوابع التى ترصع أى طلب لمواطن يطلب قضاء مصلحة.
· تصيبنى الدهشة العارمة صباح كل يوم وأنا أطالع صحف الصباح فى الصحف القومية . نصف ماينشر ليس أخبارا على الإطلاق لابمفهوم علم الصحافة ولابمفهوم البداهة والمنطق. حين تحدث كارثة مثل حادث العبارة أو دفن الدويقة تحت أحجار المقطم تخرج الصحف علينا بمانشيتات تقوم : " الرئيس يأمر بتقديم كافة المساعدات للضحايا " إليس ذلك تحصيل حاصل ؟ يلتقى الرؤساء فيقول الخبر " .... لمناقشة القضايا المشتركة بين البلدين " أو ترتكب جريمة ما فيكون المانشيت : " الوزير يأمر بسرعة ضبط الجناة " . أما المضحك حقيقة أن هناك " كليشية " تستخدمه كل الصحف عند القبض على مجرم أو مهرب ، يؤكد على يقظة الأمن وأن عملية الضبط لم تأتى مصادفة بينما فى متن الخبر أنه لم يكن لهم يد فى عملية الضبط . فمثلا " وكان العقيد فلان يتفقد حالة الأمن فلاحظ راكبا تبدو عليه علامات الإرتباك ، وبتفتيشه أتضح أنه يحمل كذا وكذا " أى أن غباء المجرم وليس يقظة رجل الأمن كانت السبب فى القبض عليه. أكثر من 95% من جرائم الموانئ والمطارات كانت بسبب الارتباك والخوف الواضح الذى لايحتاج إطلاقا إلى شرلوك هولمز للقبض على المجرم "الأهطل". وكليشيه آخر يقفل به ملف أى قضية حين يقبض على أحد الأشخاص "...وبمناقشته أخذ يهذى بكلام غير مفهوم" والباقى معروف.
· الفريق عبد المنعم رياض ، والدكتور يحيى المشد ، وسميره موسى أناس تفخر أى دولة بأن ينتموا إليها . جميعهم وغيرهم كثير ماتوا وهم يؤدون واجبهم لخدمة مصر وكل ماحظوا به سطور قليلة فى صحيفة أو تحقيق مصور فى مجلة ولم يعد أحد يذكرهم أو يحاول تذكير الناس بهم . وتموت مطربة كانت بطلة لعلاقات مشبوهة ولاتزال الصحف والمجلات تجد فى خبر موتها مادة خصبة للإثارة كما لو كانت تمجد هذا النمط من السلوك المشين . توفيق الحكيم كان يقول "نحن نعيش عصر القدم لاعصر القلم" حين كان يتحسر على مايكسبه الكاتب مقارنة بما يكسبه لاعب كرة القدم، أما الآن فسوق النخاسة بسماسرته والمتعاملين فيه تفوق مكاسبه بمراحل أية أنشطة أخرى فى أى عصر.

Tuesday, September 02, 2008

إدارة "الطاقة البشرية" ... وبناء القدرة الذاتية

أطرح فى العنوان تسمية جديدة لإدارة البشر أوالناس ، سمها ماشئت فالمعنى فى النهاية لن يخرج عن كونه واحد من إثنين : إما أن تشعر الدولة أن الناس عبء يفوق قدرتها على إدارتهم واستغلال الموارد المتاحة للدولة وتنميتها بما يحقق رفاهيتهم ومن ثم ترتدى مسوح الحكمة وتخطط بمعزل عنهم باعتبارأنهم فاقدوا الأهلية للمشاركة فى شئون حياتهم، وإما حسن إدارة طاقات هؤلاء الناس بما يجعلهم شركاء حقيقيين فى تحقيق خطط تنمية مستدامة تزيد قدرات الوطن على استيعاب طموحاتهم وآمالهم. وطبيعى أن تكون نقطة البداية فى إدارة هذه "الطاقة" البشرية أن نركز على الشباب، وأن نوجه كل الإمكانات المتاحة لكى ننهض بمستواه التعليمى والفكرى والصحى ثم نراهن بعد ذلك على ترسيخ قيم الولاء والانتماء والإلتزام ، وهى الأعمدة الخرسانية اللازمة لإقامة وطن قوى عملاق. وأنا أعتبر التنظيم المبهر لأولمبياد بكين "صفعة" حادة على وجه كل الدول التى تئن وتتوجع من أى زيادة فى عدد سكانها كما لو كان أمرا غير طبيعيا، أو شيئا لايمكن التنبؤ به والاستعداد له. لقد فكروا فى كل شيئ من أول تشتيت السحب حتى لايسقط المطر، إلى السيطرة على نسب التلوث ، إلى "الحفاضات " الخاصة للحرس المنوط بهم حراسة الاستاد طوال يوم الافتتاح . وقريبا يبلغ تعداد الصينيين مليارا ونصف المليار، ولقد تجنبت أن أقول " سكان " بدلا من "تعداد" قاصدا التنبيه إلى أن الصين نجحت فى تصدير مواطنيها خارج حدودها ليضيفوا إلى دخلها القومى مزيدا من الدولارات يضاف إلى الجهد المحلى لكل الصينيين الذين يعملون "بكامل طاقتهم" داخل الصين نفسها حيث لايوجد صينى يعيش على جهد صينى آخر . وهذا هو مربط الفرس فى بلوانا فى هذا الوطن الذى يبدو أنه بسبيله إلى أن يفقد مقومات الوطن الذى يفخر أبناؤه بالانتماء إليه ويتمسكون بالعيش فيه والعمل على تطوره وتقدمه. يكاد وطننا أن يتحول إلى معسكر "بلاعمل" ومحطة مؤقتة لحين وجود البديل . الخلاصة أن شبابنا يفتقد إلى "القيادة بالقدوة" . وحتى لايساء فهم مقصدى بأنى أحمل الشباب وحدهم مسئولية ماآل إليه حالهم ، تعالوا نضرب أمثلة واقعية مما آل إليه حال النظام والقيادات التى اختارها لتمثله والأسباب التى ساهمت فى أن يكفر الشباب بالوعود ويفقد الأمل فى المستقبل :

· تتحول المدارس والجامعات التى تعلمنا فيها – وهى حكومية ومجانية - من مصانع للرجال تعدهم تربويا وفكريا وبدنيا من خلال برامج تعليمية جيدة ومشاركات حقيقية فى الأنشطة إلى "خرابات" تكتظ بالطلاب ، ويتحول المدرس إلى "مندوب مبيعات" يسوق لكتب الغير نظير عمولة أو يصطاد زبائن محتملين للدروس الخاصة التى يعقدها فى مجموعات أو فصول ولكن لحسابه الخاص خارج النظام. وتنفصل وظيفة التربية عن التعليم فيتخرج طلاب بلا تربية ولاتعليم وتفقد الدولة مليارات كل عام من أموال دافعى الضرائب ، استثمار بلا عائد اللهم عائدا سلبيا مدمرا بتخريج مهندسين ومحامين ومدرسين وأطباء فاسدون يستنزفون موارد الوطن لحسابهم الخاص ولايفهمون معنى "أخلاقيات المهنة"، ويبدو المسئولين كالبلهاء حين تقع العمارات أو يتاجر فى الأعضاء أو يرتشى بعض رجال القضاء أويسرق بعض المحامون والضباط أو يتبنى بعض رجال الأعمال الفساد فيفسدون غيرهم لكى لاتتعطل مصالحهم.

· يباع لنا الوهم بأن الدولة تعنى بالشباب ، وتحتار كيف تقنن ذلك ، وتتغير الوزارات والوزراء والمجالس العليا لرعايتهم. ويخرج علينا من يبشر تبشير الواثق من أن مصر سوف تستضيف المونديال بعد أن أتمت استعداداتها، وأن فرصتنا فى النجاح لايشوبها أدنى شك . ونفاجأ بحصولنا على صفر فى تقييم اللجنة التى حضرت لتقييم الاستعدادات. ولم نسمع ولا صوت رسمى ينادى بمحاسبة المسئولين الذين أهدروا الملايين على سفريات للتسوق والفرجة، وباعوا الوهم ، وخدعوا أصحاب القرار الذى ماكان يجب أن ينخدعوا لسذاجة الإدعاءات وعدم كفاءة المسئولين. ولايزال الذين قاموا بعملية النصب فى مواقعهم يرتعون فى نعيم الوطن بمرتبات ومخصصات وحراسات يدفعها المجنى عليهم غصبا ولايسامحون فيها انتظارا ليوم الحساب .
· ثم نحظى بشرف الحصول على صفر آخر فى دورة الألعاب الأولمبية فى بكين هذا العام والذى صرف على من اشتركوا فيه أكثر من 40 مليونا . سافرت البعثات وأكلت وشربت وحصلت على بدلات ، وعادت وفى يدها ميدالية برونزية يتيمة تستحق أن تدرج فى موسوعة جينيس للأرقام القياسية باعتبارها أغلى مسبوكة برونزية فى التاريخ . ثم نعرف بعد ذلك أن الاستعداد الحقيقى للاعبين لم يبدأ إلا قبل الدورة بعدة أسابيع فى الوقت الذى تبدأ كل الدول فى الاستعداد لكل دورة بمجرد انتهاء الدورة التى تسبقها . عاد فطاحل المسئولين عن الدورة بعد أن " فرشوا الملاية " لبعضهم البعض وتوعدوا بعضهم البعض سوء العاقبة عند عودتهم إلى مصر. وياليتهم فعلوا ذلك غيرة على الهزائم المتتالية أو على الشرف والكبرياء الوطنى وإنما على مسائل شخصية تتعلق بأماكن الجلوس، ومن منهم رئيس من . وتشكل لجان للاستماع والتحقيق ، وتصرف مئات الألوف للوصول إلى حقيقة ماحدث والذى كان متوقعا لرجل الشارع البسيط بدون حاجة إلى لجان ولا إلى تحقيق .

· يحترق مجلس الشورى بالكامل ونتبين عدم تأمين المجلس بأى نظام إطفاء ذاتى ينبه ويطفئ مثلما هو الحال فى كل الدنيا، بل يصدمنا أداء الأجهزة المسئولة وبطئ ردود أفعالها وتضارب اختصاصاتها، ونفقد أثرا جميلا كان قصرا أحسن تصميمه واستغلاله فى عهد قالت الثورة عنه أنه فاسد وفاشل . ويخرج علينا المسئولون يقفون على خلفية ألسنة اللهب تلتهم المبنى، والمحاولات البائسة اليائسة لانقاذه لكى يؤكدوا – حتى قبل أن تبدأ التحقيقات ويعرف سبب الحريق – أنه لاإهمال وراء ماحدث ، وأن شيئا من مستندات ومحفوظات المجلس (طبعا يقصدون أكوام المضابط والتقارير) لم تمسها النار، بينما يقف الناس على الرصيف المواجة لمكان الكارثة يصورون الحدث ويتهكمون ويتبادلون النكات دون أن يعرض أحد المساعدة . الناس يتشفون فى حريق يكاد يقضى على بنايتى المجلسين التشريعيين اللذين أصبح المصريون يعتبرونهما رمزين للظلم والقوانين المقيدة للحريات والتى تثقل كاهلهم وتجعل حياتهم أكثر بؤسا، ويعرفون بفطرتهم أن احتمال التخريب لإخفاء أدلة الفساد فى جرائم كثيرة محل مساءلة واستجواب وارد. صورة هزلية لكارثة حقيقية حصلت فيه القيادات كلها على صفر أكبر بكثير من صفر المونديال فى إدارة الأزمة. وكما هو الحال دائما يطلب رئيس الدولة التحقيق، ويتكرر سيناريو الدهشة من حدوث الكارثة التى توافرت لها كل أسباب الإهمال وسوء الإدارة ، وتعلن النتائج ، ولايتغير الحال ، وتظل القيادات فى مواقعها، مثلما أن غيرهم ممن سمموا شعب مصر أو أغرقوه فى البحر أو حرقوا أبناءه فى مسارح الدولة فى مواقعهم لايجرؤ على الاقتراب منهم أحد.
· وأخيرا ذلك الهوس بمسلسل تركى وأبطاله إلى الحد الذى تزيد بسببه حالات الطلاق فى بعض البلدان العربية، وإقامة حفلات الزواج – وياللمهزلة والجهل – فى البلد التى أكرمها الله بأشرف المقدسات على موسيقى مقدمة المسلسل وإسمه "سنوات الضياع". أما فى مصر فقد قامت المظاهرات على شاطئ الصفوة يحمل أبناؤهم اللافتات ويرتدون القمصان التى تحمل صور بطل المسلسل وبطلته اعتراضا على تجرؤ إمام مسجد انتقد المسلسل وتأثيره على الشباب. هل هناك تفاهة أكثر من ذلك ؟ وهل هناك دليل أبلغ على فراغ العقل والوقت والقلب لأكثر من 34% من تعداد السكان فى مصر ؟ من الذى يتحمل وزر مايحدث فى الدنيا والآخرة ؟

لقد استغلت السعودية الأولمبياد وأرسلت بعثة تدرس الاستفادة من خبرة الصين فى التعامل مع المجاميع الكبيرة بما يساعدهم على حسن إدارة مواسم الحج . وأنا هنا أدعو إلى استيراد الخبراء – مادامت الدولة لاتعترف بخبرائها وتصر على أن تضع فى مواقع المسئولية أهل الثقة من المعوقين إداريا– لكى يدربوا المسئولين الذين تختارهم الدولة لشغل مناصبها على نظم الإدارة الحديثة بكل عناصرها من موارد بشرية إلى بناء القدرات الذاتية إلى إدارة الأزمات ، وأهم من هذا وذاك "إدارة الطاقة البشرية" وهو الإسم الجديد الذى أقترحه لإدارة وطن يتوافر به الكفاءات والموارد ولاينقصه سوى حسن الإدارة .