Wednesday, June 24, 2009

حين لانعنى مانقول .. وندافع عنه على أنه الصواب

جانب العذاب فى علم الإدارة أنك تأخذ حياتك بمنتهى الجدية ، وتطبق على نفسك ماتتمنى على الآخرين أن يفعلوه .. ويزيد من عذابك أن عينيك تصبحان كاميرا لاقطة لصور عديدة من سوء الإدارة ، أو القرارات التى تثير الشفقة وقد تؤدى إلى السخرية أحيانا من فرط سذاجتها وتجاهلها لأبسط قواعد الإدارة فتصبح كالنكتة البايخة لاتضحك ولكنها تثير نوازع الضيق والسخط .. وإليكم عينة من مسببات ضغط الدم عندى .. أشياء ألحظها بسهولة ، ولكنى الحظ معها أن الناس تمر عليها مر الكرام كما لو كانت شيئا طبيعيا لايستحق الوقوف عنده أو الإلتفات إليه :

· أعلنت وزارة الداخلية عن توزيع المثلث وشنطة الإسعاف مجانا على المواطنين عند تجديد رخص القيادة فى إدارات المرور التابعين لها .. صدق الناس ولكنهم حين يذهبون لتسلم المنحة يفاجئون بمن يخبرهم بأن الكميات نفذت وعليهم مداومة المراجعة للإستلام.. وطبيعى أن يسأل الناس عن تاريخ ولو تقريبى فيقابلون بالسخرية والإستهزاء والإدعاء بأن أحدا فى أى إدارة مرور لايعلم متى تتوافر أى كميات يمكن توزيعها ، وإذا اشتكى أحدهم لرئيس وحدة المرور التابع لها – هذا إذا تكرم وقابله – سيقابل بما هو أسوأ : عبارات مثل " إنت وحظك " أو " دى تبرع من رجال الأعمال ، واحيانا يرسلون كميات وأحيانا لأ ، فماذا نفعل؟".. سوف ينسى الناس بعد حين حكاية المثلث والشنطة ، وقد يمل البعض المطالبة بهما فيشتريهما توفيرا للوقت الضائع والإنفعال الأكيد.. وقد "تبور" البضاعة المجانية لدى إدارات المرور فيطرح المخزون للبيع بالجملة أو تنشئ إدارات المرور محارق للتخلص منها .. الأمر المؤكد أن المواطن صاحب السيارة سوف يظل مسئولا عن توفير المثلث والشنطة وسوف يدفع غرامة عدم وجودهما فى كل الأحوال حيث لايمكن أن تحاكم إدارة المرور نفسها وتعترف بأنها لم تكن تعنى ماأعلنته ولكنها فوجئت بأن الناس صدقوا ماقيل وتعاملوا معه على أنه واقع .
· تذهب إلى إدارة السجل المدنى لتغيير بيان فى بطاقة الرقم القومى فتفاجئ بالموظف المختص يطلب منك كتابة تقرير يفيد بفقدان بطاقتك القديمة .. ولو اعترضت بأنك لم تفقدها فسوف يخبرك أن ذلك لمصلحتك حيث أنك لن تتسلم البطاقة الجديدة إلا بعد شهر تقريبا ، ولايمكن أن تظل بغير بطاقة هذه المدة .. وسوف تزيد دهشتك ومعها عصبيتك من أن "الحكومة" تطلب منك مخالفة القانون فى الوقت الذى تصر فيه أنت على احترامه، حين يخبرك نفس الموظف بأنه لن يسترد البطاقة القديمة منك قبل استلامك للجديدة على الأقل لكى يختمها بخاتم يفيد إلغائها مثلما هو الحال فى الجوازات .. كثير من المواطنين إذن سوف يحملون بطاقتى رقم قومى .. صحيح أنهما بنفس الرقم ولكن ببيانات مختلفة قد تكون العنوان أو الوظيفة أو الحالة الإجتماعية : هل أحتاج لمزيد من التساؤل عما يمكن أن يحدث نتيجة لذلك فى حالات الزواج والطلاق والتعاقدات والسفر واستلام الإخطارات القانونية ؟ الأدهى من ذلك وأمر أنك تجد منشورا كبيرا فى برواز بحجم الحائط موجه لجميع المواطنين طالبى الخدمة يحثهم فيها على الإتصال بالسيد مساعد الوزير فى حالة وجود أى شكوى .. أسلوب متحضر راق ، ولكن المشكلة هو أن من كتب المنشور لم يكتب أى تليفونات تستطيع الإتصال بها .. ولعله أشفق على الناس من طلب تليفونات لاترد .
· النظافة الشخصية ، وبالذات غسيل الأيدى بعد كل نشاط إنسانى تستعمل فيه الأيدى مثل المصافحة وتداول أوراق النقد واستخدام عربات السوبر ماركت ومقابض الأبواب ، هى أهم الإجراءات الوقائية التى أكدت عليها وزارة الصحة فى حملاتها لتجنب الإصابة بأنفلونزا الخنازير .. كذلك ركزت الحملة على خطورة الإستمرار فى بعض العادات الإجتماعية الذميمة مثل الأحضن والقبلات .. الغريب أن المشاهد لنشرات الأخبار ولقاءات المسئولين فى المواقع المختلفة بالدولة سوف يفاجأ بأن هؤلاء المسئولين لم يتوقفوا عن اللقاءات الحارة بالأحضان والقبلات لزوارهم وكأنهم محصنون ضد الفيروسات التى تهاجم عامة الناس .. وقد تتباطئ الكاميرا عند المشهد العاطفى المؤثر لكى تؤكد على مدى دفء العلاقة بين المسئول وضيفه وقدر الكرم الذى يتمتع به فى الترحيب به . وفى بعض الدول العربية التى ظهر بها المرض لايكتفوا بقبلة واحدة وإنما عدة قبلات زيادة فى الترحيب .. وهكذا وتفقد اى حملة مصداقيتها فى لحظات بعد أن نصرف الملايين دون تأثير يذكر.
· مدير يحاسب مرءوسيه على بعض مظاهر السلوك السلبى دون أن ينتبه أنه يفعل ماينهى عنه ، أو يعتقد أنه مادام مديرا فقد خرج من نطاق المساءلة عن السلوك السلبى الذى يعافب عليه مرءوسيه : لايحترم وقت العمل ، ويدخن ، ويتحدث بصوت عال ، ويؤجل اتخاذ القرارات الهامة .. أو طبيب تخسيس تدخل عليه فتجد أن السمنة قد استوطنت جسده ، ولكنه لايجد بأسا فى إسداء النصائح للمرضى ويكتب وصفات الدواء التى سوف تساعدهم على أن يصبحوا مثل غصن البان .. أو طبيب اسنان تذهب إليه لعلاج أسنانك وتنظيفها فتجد أنه يحتاج هو نفسه إلى زميل يتولى تقويم أسنانه وإعطائها المظهر البراق الذى والإبتسامة المشرقة التى تعلن عنها الحسناء الموجودة بالإعلان المعلق فى عيادة نفس الطبيب .. هل هناك مبرر لكى يكون "باب النجار مخلع" سوى أن النجار إختار أن يحاضر فى النجارة دون أن يمارسها لأن الكلام دائما أسهل وأرخص من تحمل أعباء العمل والخسائر المحتملة للإنتاج ؟ ترى هل يلخص هذا بلوى مصر من قلة الإنتاج وكثرة الكلام والجدل؟

Tuesday, June 16, 2009

ثقافة مقاومة التغيير : الجذور والأسباب

حين نعيش فى عالم أصبح الثابت الوحيد فيه هو التغيير، لم يعد من المقبول أن نسير على مهل نتأمل ونتفرج بينما مسرح الأحداث يموج بالحركة والتفاعل إما فى شكل ثورات إجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية عنيفة تهدف إلى تغييرات ضخمة سريعة فى وقت قصير، أو تغيير على مهل يلعب على التطور الطبيعى للأشياء بسياسة الخطوة خطوة . المشكلة التى نواجهها مثل غيرنا أن كل تغيير لابد وأن يصاحبه مقاومة مهما كان نوع التغيير وحجمه ونطاقه وتأثيره .. مقاومة تتساوى مع قوة التغيير ولكنها تختلف معه فى الإتجاه ، أى تقف فى وجه التغيير.. المشكة الأكبر أننا فى مصر نقاوم بشراسة أى نوع من التغيير ، وأحيانا دون أن نناقش آثاره ولا العائد من ورائه .. ولعل كوننا أقدم دولة منظمة فى التاريخ منذ أكثر من سبعة آلاف سنة تعتمد على حكومة مركزية تتخذ كل القرارات دون آليات تتيح المشاركة الشعبية ولايتوافر فيها عنصر الشفافية قد أدى إلى "إعتياد" التواكل والإعتمادية على الحكومات المتعاقبة والتى قد تفضل بقاء الحال على ماهو عليه دون تغيير.
وعلى الرغم من أى عملية تغيير بنبغى أن يكون هدفها الأساسى تغيير وضع قائم إلى وضع مستقبلى يحقق تطورا إلى الأحسن وتحقيق أهداف واضحة ودقيقة لبلوغ تلك الأهداف إلا أن مقاومة التغيير سلوك متوقع فى كل الأحوال يتلازم مع أى عملية تغيير، ويكون أساسا بدافع الخوف من المجهول الذى لو زاد عن الحد المعقول فإنه قد يصيب الإرادة فى التجريب بالعجز أو بالشلل .. وهناك أسباب أخرى للمقاومة لعل أبرزها مايلى :
· إنعدام ثقافة المغامرة والركون إلى أنماط سلوكية معتادة تأتى بنتائج مضمونة تشجع على التكرار دون مجهود إضافى لإعمال العقل أو لتجريب طرق جديدة واستكشاف روافد للعقل لم تكن مطروقة من قبل .. ويصاحب تلك الثقافة خوف من المجهول ومن نتائج ليست مؤكدة ولا مضمونة تدفع إلى التردد وعدم الإقدام أو حتى محاولة إحداث التغيير.
· تهديد المصالح الشخصية لبعض من سيشملهم التغيير .. وقد يكون ذلك دخلا ثابتا ، أو سلطة
ممنوحة ، أو حرية فى الحركة ، أو مكانة نحاول الحفاظ عليها.. وطبيعى بعد ذلك أن من سيتأثر سلبا من جراء التغيير سوف يقاوم حدوثه إما بالمجاهرة وتكوين التحالفات وقوى الضغط للتأثير على صاحب القرار ، أو بالمقاومة السلبية – وهى أخطر – لإعاقة التغيير ووضع العقبات فى طريق من يقومون على تنفيذه .
· الشعور بعدم الأمان ويصاحبه فى معظم الأحيان عدم ثقة فى قيادات التغيير نتيجة لتجارب سابقة ووعود لم تتحقق ، أو إجراءات وقرارات لم يراعى فيها مصلحة الغالبية من الناس أو جاءت على عكس توقعاتهم .. والثقة في متخذ القرار لاتكون أبدا وليدة اللحظة وإنما تبنى على تجارب سابقة على امتداد فترة زمنية تتيح للناس دوام التعامل مع بعضهم البعض ومن ثم المعرفة على أساس وتجارب واقعية .
· نقص المعلومات وعدم الشفافية فى طرح أسباب التغيير وتأثيره ونتائجه يعد من الأسباب التى تزيد المقاومة للتغيير لإن نقص المعلومات يترك المجال واسعا للتخمين وللتفسير الشخصى الذى قد لايكون دقيقا بالضرورة بل يلبى احتياجات شخصية قد لايستطيع المرء أن يحققها فى الواقع فيستعيض عنها بتخيل يظل يجتره ويستعيده فى خياله حتى يتحول إلى يقين يتحكم فى السلوك ويوجهه إلى ناحية المقاومة دون أن تتوافر أسباب قوية لذلك درءا لمخاطر غير محسوبة ترسخت فى يقين الشخص .
· عدم توافر الإرادة للتغيير ، وذلك نابع من خوف الشخص من " تكاليف " التغيير ومن قدرته على الوفاء بتلك التكاليف ومن ثم يركن إلى سلوك قديم اعتاد عليه وجربه ولايحتاج منه إلى اى اختبار يؤكد له ذلك .. وقد تتوافر الإرادة ولكن عدم الإقتناع بضرورة التغيير قد تكون هى العائق ، ولذلك كان لابد من توافر اسباب قوية يقتنع بها من يشملهم التغييروكذلك إبراز المزايا التى سوف تعود عليهم منه لضمان تأييدهم وحماسهم للمشاركة وأداء الأدوار التى سوف تسند إليهم فى عملية التغيير.
· إنعدام روح الفريق والعمل الجماعى وهما دعامتان تحتاجهما أى عملية تغيير لتحقيق "الإلتزام " والتكامل بين أعضاء الفريق لكى يعزفوا معا مثل " أوركسترا " متناغم يكمل العازفون فيه بعضهم بعضا بدلا من العزف المنفرد فيتحول الأمر إلى " دفاع أنانى " يخدم مصالح شخصية أو كسب ذاتى لايؤدى بالضرورة إلى تطور إيجابى بالنسبة للغالبية وليس لعدد محدود من الناس .. ويساعد على ذلك وجود من نسميهم " وسطاء التغيير " الذين يقتنعون بأهداف التغيير ويساعدون قيادات التغيير على إحداثه بما لهم من تأثير على المحيطين بهم .
· وأخيرا عدم توافر القيادات المؤثرة فى عملية التغيير ، والتى قد لاتكون قادرة على إقناع الآخرين والتأثير فيهم لكى يتحركوا نحو التغيير ويقبلوا عليه ، أو قيادات تتجاهل دورها فى القيادة بالقدوة لمزيد من الإقناع ، أو تفتقد إلى مهارات التحفيز لكى تزيد من حماس الناس أو المتابعة لتحقيق أهداف التغيير، أو إتخاذ القرارات التصحيحية والتى تكون لازمة أحيانا لتعديل المسار نحو تحقيق أهداف التغيير.

فن التواصل الجماهيرى : لقطات من خطاب "أوباما"

لن أتطرق إلى محتوى خطاب "أوباما" فقد تناوله قبلى العديد من الكتاب بين مؤيد ومعارض ومحايد، ولكنى سوف أقصر تحليلى للخطاب على علم وفن الإتصال واستغلالهما فى التأثير على الجماهير بالإستخادام الأمثل للأدوات التى تساعد على توصيل محتوى الرسالة ووضوحها والتأكد من فهمها ومن ثم تبنى الأفكار التى وردت بها. وأنا أفضل أن أقول "علم التواصل" بدلا من الإتصال للتأكيد على أننا بصدد عملية "تصنيع" لرسالة ما لابد وأن تصاغ فى شكل يجعل المتلقى يستوعب المعنى بدقة ، وأن تتحقق أهداف تلك الرسالة باستخدام وسائل التواصل المناسبة بمهارة وحرفية ، ثم يأتى دور الجاذبية الشخصية التى تطبع عملية التواصل بنمط الإتصال الذى يميز كل منا. تعالوا نتحدث عن عملية التواصل بين "أوباما" والعالم ونطبق بأمثلة من واقع الخطاب الفريد الذى ألقاه من القاهرة :
· عملية التواصل الناجحة تتطلب معرفة تامة بخلفية المتلقى وثقافته والقيم التى تحكم عقليته وتوقعاته ممن يلقى الخطاب ، ومن ثم تصاغ الرسالة لكى تخاطب هذا العقل وتؤثر فيه .. وكان التحدى الذى واجهه الرئيس الأمريكى هو تعدد ثقافات المتلقين واهتماماتهم وتوقعاتهم وارتباط تلك التوقعات " بصورة ذهنية " سلبية للدور الأمريكى فى المنطقة التى يتم التواصل معها والرغبة فى التأثير عليها لتغيير تلك الصورة .. لذلك كان لابد من الإستعانة بخبراء من المنطقة واستشاريين يفهمون جيدا تلك الأمور بما فى ذلك ثوابت الأديان الثلاثة والمشاكل السياسية المتفجرة ، وأن يشترك هؤلاء الخبراء مع فريق الكتاب الذين يتولون مهمة صياغة خطابات الرئيس .. وقد اتضح ذلك من استخدام ألفاظ لها مدلولات ثقافية إيجابية مستمدة من الأديان الثلاثة التى ارتبط نزولها بالمكان الذى سوف يلقى منه الخطاب وكذلك من ردود الفعل الإيجابية أثناء إلقاء الخطاب تصفيقا أو بعد الخطاب تحليلا .
· إختيار الوسيلة المناسبة والمكان المناسب لكى تصل الرسالة بأقصى قدر من الفعالية للمستهدفين من الخطاب والرمز الذى سوف يرتبط ذهنيا بالخطاب والمعانى التى وردت به .. كان هناك خيارات عدة ولكن الرأى استقر على أعرق جامعة فى المنطقة فيصبح المعنى هو الحيدة وعدم التحيز لعرق أو جنس أو دين لو تم اختيار مكان يعد رمزا لآى منها ، وساعد اختيار جامعة القاهرة أيضا فى الإيحاء المقصود بأن الخطاب للنخبة المثقفة وقادة الرأى واصحاب الفكر الليبرالى الحر بما يسمح للرئيس أن يقول مايريد بصراحة حتى لو اختلف فى رؤاه مع بعض منهم ، وعلى الرغم من ذلك صيغ الخطاب بلغة بسيطة سهلة وسعت دائرة المستهدفين لتشمل رجل الشارع فى مصر والعالم العربى كله وطبعا الغرب وأوروبا.
· التنوع فى أسلوب الإلقاء كان أداة حاسمة فى فعالية الرسالة وتأثيرها على المستمعين ممن حضروا الخطاب أو تابعوه فى أجهزة الإعلام المرئية ، فالرئيس يعلو صوته حين يريد أن يؤكد على تبنيه لموقف أو قضية ويخفت حين يتحدث عن الدين والسلام أو التحية وقاطع حاسم لأيصال رسالة تطمئن طرفا من الأطراف أن أمريكا لم ولن تغير موقفها .. ولنفس الأسباب نجد أن سرعة إلقاء الخطاب أيضا قد تفاوتت بين السرعة والتأنى بل والصمت لثوان أحيانا للتأكد من أن المعنى الذى يقصده قد وصل وأن رد الفعل أو التأثير أو الهدف مما قيل قد تحقق.
· يأتى بعد ذلك لغة الجسد والطريقة التى يقف بها المتحدث والألوان التى يرتديها فتوحى بالمعانى مثل لون ربطة العنق ذات اللون الأزرق والذى كان واضحا حسن تدريب واستيعاب "أوباما" لأهميتها نظرا للتدريب الجيد من كثرة الخطابات التى ألقاها منذ حملاته الإنتخابية المتعددة نائبا فى مجلس الشيوخ ثم رئيسا ، بالإضافة إلى كونه محاميا اعتاد على الإعداد الجيد لدفاعه ومواجهة المحكمة والمحلفين بدفوعاته وتوجيه انتباههم لمناطق تضمن له التأثير عليهم وعلى أحكامهم .. كان "أوباما" يتحرك بسهولة شديدة على المنبر الذى ألقى منه خطابه ، وحريصا على ألا ينظر فقط إلى الأمام مركزا على من يجلسون وسط القاعة وإنما يغطى بعينيه جانبى القاعة ولاينسى وهو يفعل ذلك النظر كل حين إلى أعلى حيث كان يجلس مجموعات من المدعوين لكى يؤكد أنه يخاطب الجميع وأنه لايخص أحدا بما يقول .
· وأخيرا يأتى دور التكنولوجيا التى اعتاد الرؤساء الأمريكيين كلهم على استغلالها لكى يظهروا كما لو كانوا يرتجلون خطاباتهم وهم فى الواقع يلتزمون بالنص المكتوب لهم التزاما تاما بعد مراجعته والتمرن عليه .. الشاشات الشفافة المثبتة أعلى كاميرات التصوير والتى لايراها سوى من يقف على المسرح تعرض الخطاب سطرا سطرا طبقا لسرعة الإلقاء وتتوقف حين يتوقف الكلام وتكون فى مستوى عين من يلقى الخطاب فلا يظهر أنه يقرأ وإنما يتحرك بصورة طبيعية مستعرضا بلاغته اللفظية وروح الفكاهة والتساؤل الذى يشرك به المستعمين فى رأى أو موضوع وكلها مكتوبة أمامه على شاشات "التلى سين".

Wednesday, June 03, 2009

المسئولية الإجتماعية : الوجه المضئ لتوحش عالم المال والأعمال

تعجبنى حكمة صينية قديمة تقول " إذا إردت رخاء لمدة عام واحد فازرع قمحا .. وإذا أردت رخاء لمدة عشر سنوات فازرع شجرة .. أما إذا أردت رخاء لمدة مائة فازرع بشرا" .. تتسق تلك الحكمة مع ماينبغى لنا فى مصر أن نؤمن به وهو قيمة الناس وتأثيرهم – إذا أحسن تربيتهم وتعليمهم – على رخاء مصر وتنميتها وبناء قدرتها الذاتية .. ولايمكن أن نفكر فى مصر الدولة دون أن نفكر فى مصر بمؤسساتها المختلفة وقطاعات الأعمال بها والتى يمكن لو وعت دورها الإجتماعى ومسئوليتها تجاه موظفيها وأسرهم والمجتمع ككل أن تسهم بقدر كبير فى سد الفجوة بين مجتمعات الكفاف ومجتمعات الوفرة .. بين سكان العشش وسكان القصور .. بين المتاح من الإمكانات ومتطلبات تحقيق أهداف التنمية.. ولعل نظرة سريعة على واقع المجتمع الدولى اليوم تدق أجراس الخطر عن التدهور السريع فى أوضاع الدول النامية بالقياس إلى الدول المتقدمة وتؤكد على الدور الخطير الذى يمكن أن تلعبه مؤسسات الأعمال فى الإسهام فى تقريب تلك الفجوة ولو بقدر ضئيل .
ثلث سكان العالم يعيشون على أقل من نصف دولار يوميا ومحرومون من مياه الشرب النظيفة ومن الكهرباء .. ونصفه على أقل من دولارين فى اليوم ومحرومون من الصرف الصحى .. والعالم يحتاج إلى 950 مليار دولار إذا أردنا أن نتيح فرصة التعليم لكى طفل يولد ، وهذا الرقم على ضخامته لايعنى أكثر من 1% مما يصرفه العالم على شراء السلاح سنويا.. أما الأخطر من ذلك فهو أن 20% من سكان دول العالم المتقدم يستهلكون 86% مما ينتجه العالم من السلع ، بينما يستهلك 20% من الدول الأكثر فقرا فى العالم 3ر1% من تلك السلع .. فى وسط هذا التناقض الفظيع نجد أن إجمالى مبيعات أكبر مائتى مؤسسة عملاقة فى العالم تساوى 18 مرة إجمالى دخل 24% من كل سكان العالم ، وأنه على الرغم من أن الشركات المتعددة الجنسيات تمارس وحدها ربع النشاط الإقتصادى فى العالم إلا أن إجمالى العاملين بها لايزيد عن 1% من سكان العالم الذى يعانى أكثر من ثلث سكانه من القادرين على العمل والباحثين عنه من البطالة.. الذى يزيد الطين بلة أن دول العالم المتقدم تحافظ على عدد سكانها دون زيادة منذ عام 2000 وحتى عام 2050 ليقف عند 1 بليون بينما المتوقع أن يبلغ إجمالى عدد سكان الدول النامية إلى 8 مليار.
المسئولية الإجتماعية التى ننادى بها تعنى ببساطة أن تصبح المؤسسات جزءا من المجتمع ككل وأن مؤسسات المجتمع المدنى تملك حق مساءلتها عن نشاطاتها إذا لم تحافظ على البيئة وإذا أساءت إلى عملائها أو أهملت فى رعاية موظفيها وأنها تستثمر قدر استطاعتها فى تحسين أحوال المجتمع والمساهمة فى رفاهيته .. والمسئولية الإجتماعية لاتعنى أعمال الخير وإن كانت أعمال الخير جزءا من المسئولية الإجتماعية لمؤسسات اليوم التى تعد وسيلة فاعلة فى تنمية المجتمعات والقضاء على الفقر ورفع مستوى المعيشة بتلك المجتمعات ، ولذلك فإن المؤسسات العملاقة فى العالم المتقدم مثل مؤسسة فورد وبل جيتس تلتزم فى أدبياتها ومنظومة القيم التى تحكم عملها بمسئوليتها الإجتماعية وترصد لذلك مليارات الدولارات لأن العائد على صورة تلك المؤسسات وإقبال الناس على منتجاتها وبالتالى ماتحققه من أرباح يفوق بكثير ماتنفقه على تنمية المجتمعات التى تعمل بها .. هناك إلتزام أخلاقى وعقد اجتماعى يحكم العلاقة بين الطرفين ويحقق التكامل والقبول والإحترام المتبادل بينهما.. وهذا الجانب الأخلاقى بالذات يجعل من تأثير المساهمة المجتمعية قيمة كبرى وعاملا بالغ التأثير فى بناء " القدرة الذاتية " للمجتمعات وفى محاربة الفساد وتشجيع الصناعات الصغيرة ومساعدة الشباب على إيجاد فرص عمل والحفاظ على البيئة وتشجيع العمل التطوعى لخدمة المجتمع والحفاظ على الصحة العامة والمساهمة فى الأعمال الخيرية التى تقوم بها المنظمات غير الحكومية فى مجتمع ما .
ويتسع نطاق المسئولية الإجتماعية ليشمل عدم غش المستهلك ، والإصرار على تقديم سلع وخدمات عالية الجودة ، وعدم احتكار السلع ، وتقديم التسهيلات المناسبة التى تتيح للناس إقتناء المنتجات التى يحتاجونها بشروط تتناسب مع قدرتهم الشرائية وبالذات فى أوقات الكساد ..
وفى مصر نحن أحوج مانكون الآن أكثر من أى وقت مضى لآن تعى مؤسساتنا مسئوليتها الإجتماعية لكى تنهض بمستوى المجتمع .. ولدينا عدد من رجال الأعمال بادروا بإنشاء مؤسسات إجتماعية قصدوا بها ذلك وإن كانت لاتزال تركز على الأعمال الخيرية دون "بناء القدرة الذاتية للمجتمع لكى ينهض ويستمر فى التنمية" .. بل إن هناك أناس بسطاء يعتبرون روادا فى هذا المجال كثير منهم لم يتلقى سوى قسط ضئيل من التعليم وبعضهم لم يتح له أى قدر ولو ضئيل منه .. أتحدث هنا عن عن نماذج مصرية بسيطة أخرى لم تنل أى نصيب من العلم ولكنها كانت تتمتع بالموهبة الطبيعية "للإدارة المجتمعية" .. سيد جلال – يرحمه الله - الرجل البسيط الذى بدأ حياته حمالا ، عرف كيف يستثمر ثروته التى من الله عليه بها بعد سنوات من الشقاء والمعاناة فأنشأ مستشفى باب الشعرية الذى يعد مدرسة طبية تخرج فيها آلاف الأطباء الشبان على أيدى أساتذة عظام يجمعهم حب الخير ، ويستفيد من خدماتها مجانا فقراء المجتمع ومعدميه .. محمد مدبولى شاهدته وأنا فى الجامعة هو وأخيه يساعدان عمهما فى بيع الجرائد والمجلات أمام الكشك الذى كان يمتلكه فى قصر النيل بالقرب من ميدان طلعت حرب ثم ينامون جميعا على الرصيف آخر الليل .. أدار مدبولى – يرحمه الله – حياته بأمانة وبفطرة سليمه ورغبة جامحة فى التعلم فأصبح أكبر وأجرأ ناشر فى المنطقة بل إنه كان يساعد الطلبة من غير القادرين على اقتناء الكتب التى يحتاجونها إما بالتقسيط المريح أو مجانا .. مثلان فطريان رائعان من أمثلة إدارة الذات والوعى بالمسئولية الإجتماعية يحقق بها الإنسان لنفسه ولمجتمعه على السواء طموحات قد تبدو غاية فى الخيال وإفراطا فى التمنى ولكن الإيمان بالفكرة والمثابرة والإصرار على تحقيقها كفيلان بتحويل الحلم إلى حقيقة .