كنا ونحن صغارا ثم شبابا يافعا بعد ذلك، وبحكم الجيرة نذهب إلى دمياط فى فصل الصيف لكى نقضى بعض الوقت نستمتع بجمال البحر وسماحة الناس وطيبتهم ونلتهم مالذ وطاب مما ابتدعته أيادى الدمايطه من طواجن خيرات البحر وأصناف الحلوى المبتكرة التى لم نعد نجد نظيرا لجودتها .. ولكن أكثر ماكان يستحوذ على كيانى كله لسان يمتد داخل البحر ويستطيع من يتمشى عليه أن يشاهد بعينه آية من ايات الله حيث ملتقى البحر مع النيل دون أن يختلط ماءهما " ... فهذا عذب فرات وهذا ملح أجاج" استحضرت تلك الصورة وأنا أستعيد أحداث الثورة وأقارن بين جيل الثورة من الأطهار وجيل دولة الظلم التى سقطت "وكنا نظنها لاتسقط" فالراصد الواعى لما جرى حين ثار بركان الغضب المصرى مكتسحا فى طريقه مملكة الظلم وعصابات البلطجية والإرهابيين الذين جعلوا من أنفسهم ملاكا أقطاعيين ليس فقط لأرض مصر وماتحتها من ثروات، ولكن لشعبها كله يقربون من يشاءون من العبيد والموالى والدلاة والخصيان ، ويزجون بالباقين فى السجون والمعتقلات أو يتخلصون منهم بالقتل أو النفى .. جاءت الثورة التى أشعل شرارتها وقادها بعفوية واندفاع طاهر شبابا كنا نظنهم منفصلين تماما عن واقعهم لكى يسقطوا قلاع دولة الظلم واحدة وراء الأخرى .. الإختلاف بين الجيلين تماما مثل الإختلاف والتباين الشديد بين ماء النيل وماء البحر، لايمكن أن يختلطا، فالنظام الذى قام على الغش والخداع من خلال حضانات الحزب الواحد والمؤسسات والهيئات التى أنشئت خصيصا لخدمة طبقة النبلاء من الأسرة الحاكمة وحوارييهم للتكويش على السلطة وجمع الثروات بكل طرق التحايل، يختلف تماما عما نادت به الثورة من شفافية وطهارة وإنتماء للوطن والموت فى سبيله.
الأبواق التى كانت تملأ الدنيا ضجيجا وتتغنى بمآثر النظام البائد حاولت فى بداية الثورة على استحياء أن تتسلل إلى مناصب الدولة ووزاراتها محاولة إعادة إنتاج البضاعة الفاسدة التى كانت تنتجها بأسماء ووجوه كثيرة تروج لها بمؤتمرات وندوات وحوارات أسموها "وطنية"، وحين انكشفت اللعبة استمات حملة الأبواق للبقاء فى مناصبهم التى يجنون من ورائها الثروات والتى تقربهم من اصحاب القرار فى الوزارات المتعاقبة وأجهزة الحكم أو شبكات التواصل التى كونوها على امتداد السنين من أصحاب المصالح مثلهم من الذين يؤمنون فقط بمنهج "تبادل المصالح" وأن "الغايات تبرر الوسائل" مهما كانت تلك الوسائل لاأخلاقية وغير نظيفة وتليق فقط بقطاع الطرق وعصابات النهب والسطو المسلح .. نجد أن مركزا يتبع مجلس الوزراء المفروض فيه أنه مركزا للمعلومات والأبحاث والدراسات التى تعين صانع القرار على أن يبنى قراره على أساس علمى، قد اقتصر دوره على إصدارات فخيمة تتصدرها صورة مبارك وأسرته وتحتوى على إحصاءات تافهة يعاد انتاجها وتقديمها بصورة توحى أن مصر دولة عظمى وأن إنجازات النظام لم تحدث فى تاريخ مصر كله بما فى ذلك عهد محمد على، وأن 86 % من الشعب يمتدحون أداء حكومات مبارك ويكادون يجمعون التوقيعات من كافة طوائف الشعب لكى يبقى مبارك رئيسا حتى الموت ويأتى ولى عهده من بعده لكى يكمل مسيرة مصر التى أصبحت دولة عظمى .. هذا المركز قام دون خجل بنشر استقصاء رأى يقول أن أهم أحداث عام 2010 هو ميلاد حفيدة رئيس الدولة، ولم يصدر خلال حكم مبارك ولا تقرير واحد عن نسب الفقر والأمية والأمراض المتفشية ولا حالة التعليم ولا غلاء الأسعار، وأسهم لسنوات طويلة فى إهدار المال العام بتسخير كافة موارده للدعاية للحزب الوطنى، وصرف أموال المعونات الأجنبية والقروض والمنح على تأصيل التوريث وبيع الوهم للناس .. بعد الثورة صمت المركز الذى يعمل به 600 موظف ثلثيهم من الإستشاريين وشاغلى الوظائف الإشرافية والتنفيذية تماما ، أصيب بالخرس ولم يعد يصدر أى تقارير تجنبا للفت الأنظار، وسوف يكشف التحقيق مع قياداته بالأرقام حجم الفساد به.
مؤسسة أخرى تقف شاهدا على فساد الإدارة وعفن قراراتها، وإهدار المال العام، وتوزيع المناصب على المحاسيب والمستفيدين هى "الهيئة القومية لجودة التعليم" التى رصد لها مليار جنيه من ميزانية الدولة خلال السنوات الأخيرة من حكم مبارك ، ولعبت باقتدار دور "المحلل" لتلميع سوزان مبارك وإظهارها فى دور راعى نهضة التعليم فى مصر وإطلاق إسمها على نصف مدارس مصر ومنح تلك المدارس شهادات الجودة فى الوقت الذى لايوجد بها معامل ولا أجهزة كمبيوتر تعمل ولا ملاعب لممارسة الأنشطة ولا مقررات حديثة تلحق بالتقدم العلمى فى العالم ولا أساتذة مؤهلين محفزين يؤمنون برسالة التعليم ويتفرغون له ولا حتى دورات مياه آدمية تصلح للطلاب وأساتذتهم .. وفضيحة جمع نخبة من الأولاد لتمثيل دور الطلاب فى مدارس تفتحها "الهانم" لم تعد سرا..ومادام ليس فى مصر تعليم اصلا وإنما مبان متهالكة مهترئة وخرابات مسورة يوضع عليها لافتات بأسماء مدارس وهمية فقد آن الأوان لكى يفتح ملف تلك الهيئة ويتم التحقيق مع المسئولين عنها وعن الأموال التى أهدرت على المرتبات والمكافآت والبدلات والرحلات الخارجية وقياس عائد العمل منذ إنشائها وحتى الآن فى أكبر عملية نصب علمى ممنهج يخدع الناس ويوهمهم على غير الحقيقة أن فى مصر تعليم وأن مستواه يضاهئ نظيره فى الدول المتقدمة.. آن الأوان لكى يفتح مجلس الشعب ملفات الفساد الإدارى ويعيد للشعب حقه.
No comments:
Post a Comment