الأم تحتضر .. والأبناء يقسمون التركة
قديما قال الشاعر:
نعيب زماننا والعيب فينا / وما لزماننا عيب سوانا. المشهد قاتم حالك السواد وكئيب
ومحبط : مصر مثل الأم التى أفنت حياتها فى تربية أبنائها أنهكتها الأمراض وأفقدتها النطق وسقطت طريحة الفراش
تنتظر فى صبر قضاء الله، تنظر فى حسرة إلى أبناءها الذين تشاغلوا عنها يتجادلون
حول التركة ويتصارعون يريد كل منهم أن يضمن نصيبه منها وينتظرون بملل أن يتحقق ذلك
فى أسرع وقت ..وبين الحين والآخر يخرج صوت عاقل لأخ أو أخت أو عم أو خال يدعو
للتعقل والتدبر والإلتفات للأم والعناية بها أولا وقبل أى شيئ آخر، ولكن ضجيج
النقاش والجدال يتصاعد ويغطى على كل محاولة لإعمال العقل والمنطق .. التعبير على
وجه الأم وفى عينيها مؤلم وقاس ويقطع نياط القلوب ولكن الأبناء تحولوا إلى حواسب آلية يجمعون ويطرحون كشوف الحساب والعائد المنتظر بعد
موت الأم.
فى إسرائيل لايمكن
أن ترى مشهدا مثلما ترى فى مصر عند الإختلاف على قضية تمس أمن الوطن وسلامته
ومصالحه العليا .. تتحد كل القوى أما الخطر حتى يزول ثم تعود لتختلف فى رؤاها
وتوجهاتها واستراتيجيتها للوصول إلى الحكم، وفى مصر نجدها فرصة للإنتحار الجماعى
وتصفية الحسابات والتخوين والإقصاء والإستقطاب والتخريب واغتيال الذات والتجريس
ونظن أننا فى معركة بين جيوش متحاربة لابد وأن ينتصر أحدها وينهزم الآخرون، وتعمى
بصائرنا وأبصارنا فلا نعود نرى أن الضحية الوحيدة فى كل حرب هى مصر التى يوجه
أبناءها سيوفهم وخناجرهم وطلقاتهم إلى صدرها الذى احتواهم واحتضنهم وقبل فى صبر
إنفلاتهم وجموحهم وعقوقهم .. نتآمر على مصر ونقع فريسة للدس والوقيعة والتآمر،
ويخون البعض حتى قبل أن يقبض مثل الآخرين وتتحول جلساتنا واجتماعاتنا إلى مؤامرات
تحاك فيها الخطط للإجهاز على مصر وكتم أنفاسها وإنهاك قواها وتقييد حركتها، غير
مدركين أننا ننقلب على أنفسنا وننهى بأيدينا أى بادرة استقرار ونضيع فى إصرار أحمق
أى بارقة أمل فى النهوض بمصر وإصلاح مالحق بها على يد عصابات تخصصت فى تجريف
مواردها ومعها مقدراتها ومستقبلها.
حين يتملكنا الغضب
نصدق الشائعات ونجرى وراء السراب ونحارب طواحين الهواء بسيوف خشبية وتتملكنا عواطف
جامحة لتدمير الآخر وإحساسات بالتفوق والبطولات الزائفة نريد أن نزيله من الوجود مادام
الوطن لايسع سوانا وأننا الأحق بقيادته والتصرف فيه حسب هوانا .. تتملكنا حالة من
"فوبيا" الخوف من كل من حولنا والتربص لكل مايفعلون ويقولون وتفسيره على
أنه موجه ضدنا وأن واجبنا أن نستبق ونجهض محاولاتهم لإيذائنا والنيل منا،
وتستغرقنا دوامات الصراع واحدة وراء الأخرى فنظل نقاومها وسط بحر الظلمات الذى
القينا بأنفسنا فيه دون أن نحسب كم بعدنا عن الشاطئ ولا إذا كنا نستطيع العودة
للشاطئ لو أردنا .. الطرق التى نسلكها فى إدارة أى صراع أو أزمة فى مصر طرق ذات
اتجاه واحد لاتسع سوانا ولاتؤدى إلا إلى حوائط مسدودة تجعل وجوهنا للحائط بعد أن
تضيق بنا السبل، والحلول الوسط لدينا منعدمة فإما مكسب وإما خسارة على مقاسنا
وبالطريقة والتوقيت الذى نحدده.
شعب قام بأعظم
ثورة فى تاريخ مصر، وجعل من ميدان التحرير إسما على مسمى، واستطاع فى ثمانية عشرة
يوما أن يزيل كابوس حكم طاغية جثم على أنفاس مصر ثلاثين عاما يخرب وينهب ويروع
ويعد العدة لتوريثها لابنه وأحفاده من بعدة غنيمة أبدية يظل أهلها عبيدا يعملون
لدى السلطان بلقمة العيش ولايحق لهم أن يطالبوا بأكثر من ذلك، وإذا بنفس الميدان
يتحول إلى ساحة قتال ورمز للفوضى والتآمر وتجييش الناس لكى يأكل بعضهم بعضا وتحول
الرمز النقى الطاهر إلى بيت للتآمر يستغل فيه كبار الساسة براءة البعض ويلعبون على
إشباع حاجات البعض لمال أو حب زعامة لكى يحققوا أهدافهم ويصفوا حساباتهم .. تراهم
يختلفون فى كل شيئ سوى الإطاحة بمن يقف أمام طموحاتهم وأحلامهم فى مجد شخصى أو
الوصول إلى السلطة أو فضح فصيل بعينه، وسوف يكشف التاريخ حين تتضح الرؤية وينقشع
الظلام أبعاد ماكان يحاك من مؤامرات والضالعين فيها والأموال التى دفعت والجهات
التى خططت ونفذت وراقبت ولازالت تضخ أموالها وعملاءها يندسون بيننا ليزيدوا النار
اشتعالا.
سوف تنقشع الغمة
وسوف تسقط كل الأقنعة لتظهر الوجوه الحقيقية، وسوف تقوم "مفرزة" الوطن
بعملية تصنيف لأبنائها، وسوف يفاجئ الأبناء بأن الأم قد تعافت ونهضت لتمشى واثقة
الخطى وقد عرفت من منهم إبناءها ومن منهم البلطجى الذى إندس لينال نصيبا من التركة
بادعاء أنه من الأبناء البارين بها، وسوف يعلم الجميع قبل كل ذلك أن المقامرة
بمصير وطن ليست مأمونة العواقب دائما وأن سلوك البلطجة والتآمر لمصلحة نظام أو
أنظمة قامت ثورات الربيع العربى لتسقطها لم يعد ممكنا "تدويره" وإعادة
إنتاجه، وأن بسطاء الوطن الذين لم تفعل النخبة شيئا دفاعا عنهم وعن حقهم فى الحياة
غير الكلام قد انحازوا للشرعية وللإستقرار والأمان بينما يراقبون بالفطرة ويحاسبون
بحسهم من قال ومن فعل من المتعلمين والمثقفين وقادة الرأى ومحترفى السياسة، وسوف
تقوى سلطة الصندوق ويزيد الوعى بالإحتكام إليه، وسوف يلغى من قاموس مصر مهنة
البلطجة بكل أنواعها، وسوف توجه الطاقات إلى العمل والإنتاج بدلا من استنفاذ
الطاقات فى حروب الشوارع والمكاتب والتحالفات واللهاث وراء الفضائيات والخطابة .. كلهم
زائلون وتبقى مصر.
د/ فتحى النادى
No comments:
Post a Comment