Sunday, January 11, 2009

إصلاح فساد التعليم فى مصر : نظام القبول والأعداد الكبيرة,(3-5


لم يعد بى حاجة لأعيد تأكيد أنه ليس هناك خطة استراتيجية متكاملة لمنظومة التعليم العالى فى مصر بعد أن خرج المسئولون عن التعليم واطيه وعاليه وزيرا التعليم والتعليم العالى ورئيس الهيئة القومية للجودة والإعتماد يتهمون بعضهم البعض علنا على صفحات الجرائد – وهى صحف حكومية هذه المرة - بعدم الصدق فى بياناتهم وتصريحاتهم ويوزعون التهم والمسئولية عن الكارثة التى نناقشها (صفحة كاملة فى أخبار اليوم بتاريخ 3 يناير) نحن هنا بحاجة إلى لجنة محايدة – هناك لجنة قومية دائمة مشكلة برئاسة الوزير ولايعقل أن يكون خصما وحكما فى نفس الوقت- للتحقيق فيما نشر وتعلن نتائجه لكى يحاسب من تلاعب بأخطر ثروة قومية نمتلكها ، ويعرف الناس كيف ضاعت أموالهم ؟ إن نظام القبول بجامعاتنا والذى تسبب فى تكدس الجامعات بطلاب لايجدون مكانا يجلسون فيه لتلقى العلم ولا معاملا يجربون فيها النظريات التى يدرسونها ولا كتابا حديثا يواكب الجديد فى تخصصاتهم يذكرنى بتعبير مشهور يكنى عنه بكلمة تختصر عبارة كاملة هى GIGO وهى اختصار لعبارة Garbage in garbage out بمعنى أن المدخلات لو كانت فاسدة فلابد وأن تكون المخرجات كذلك . وأنا هنا استعير المعنى المجازى دون الحرفى لتلك العبارة الكاشفة. وينطبق هذا المثل بالضبط على حالة الجامعات فى مصر فى ظل نظام الفوضى الحالية للقبول والتى تعتبر أن من حق أى حاصل على الثانوية العامة – التى تصلح فى الأصل لكى تكون شهادة لمحو أمية القراءة والكتابة لاأكثر – دخول الجامعة أو أى من معاهدها العليا. ويصطدم أى داعية للإصلاح بمأثورات عفا عليها الزمن مثل "لامساس بمجانية التعليم " ولم تعد تصلح إلا للاستهلاك السياسى وتملق الناس وتعلقهم بآمال كاذبة فى فرص متكافئة وتعليم حقيقى . أى تعليم نقصد هنا ؟ إذا صحت المقولة على التعليم الأساسى فلايمكن أن تكون كذلك بالنسبة للتعليم الجامعى . وأشك كثيرا فى أن طه حسين يرحمه الله حين قال عبارته الشهيرة " التعليم كالماء والهواء " لم يكن يخطر بباله أن سيأتى يوم تقبل الجامعات فيه كل من يتقدم إليها لكى يدرس برامجا ومناهجا ومقررات لاتتواءم بالضرورة مع إمكانياته العقلية واستعداده الشخصى . وقد يكون من المقبول أن نترك للطالب الحرية فى اختيار مايشاء بشرط أن يتحمل تكاليف ذلك ، وأن نوجه ماتصرفه الدولة على التعليم إلى برامج موجهة تسلح الخريجين بعلوم ومعارف وخبرات يحتاجها المجتمع لكى ينهض والدولة لكى يكون لها شأن بين الأمم التى تعتمد العلم والعلماء ركيزة للتقدم. تغير الزمن الذى كانت موارد الدولة وعدد الملتحقين بالتعليم الجامعى تسمح بإهدار 6250 جنيها تتحملها ميزانية الدولة حاليا لكل طالب جامعى منتظم وهو ترف لانتحمله كدولة جفت مواردها من جهة ، وسياسة تحرم صاحب الحق الأصيل فى أن تتبناه الدولة من المتفوقين الذين يمكن أن يكون البعض منهم نواة لعلماء نحن فى مسيس الحاجة إليهم إذا كنا فعلا نريد أن نلحق بقطار التقدم الذى لازلنا ننتظره على محطة مهجورة ألغيت منذ عشرات السنين فلم يعد القطار يقف عليها . وحتى مع نشأة الجامعة الأهلية التى ساهم الناس فى مصر فى إنشائها وكان من الطبيعى أن يشاركوا فى جنى ثمار هذا العمل القومى العظيم بإدخال أبنائهم إليها مجانا لم تكن الجامعة مجانية بل كان الطالب يدفع مايغطى تكاليف تعليمه بحسابات ذلك الزمان . وظل الحال على ذلك حتى قامت ثورة يوليو 52 وأرادت على عجل أن ترد بعضا من دينها للناس الذين ساندوها ووقفوا خلفها لكى تحقق نجاحا لم يكن محسوبا وكان مفاجأة حتى للذين قاموا بما كان يسمى " حركة الجيش أو حركة يوليو" . واستمرت المنحة لكى تصبح حقا وتأصلت الممارسات العشوائية الخاطئة لكى تكتسب مجانية التعليم مثلها فى ذلك مثل توزيع الأرباح والحوافز على العاملين لشركات خاسرة قداسة تتجنب نظم الحكم المختلفة والسياسيون الإقتراب منها أو حتى مناقشتها . إذن نحن نصادر على أى رأى للتغيير ، ونجهض كل محاولة للتطوير ، ونوقف عجلة الزمن عند نصف قرن مضى ، وطبيعى أن يكون هناك مستفيدين من النظام الحالى وجماعات مصالح وضغط تكونت خلال تلك الفترة بأشياعهم وأتباعهم الذين تمنعهم إمكاناتهم وقدراتهم على تقبل أى تغيير يهدد مكاسبهم، ومن ثم يصورون أى نداء للتغيير على أنه ردة وخيانة وطنية تنتقص من مكاسب الشعب التى اختزلناها حاليا فى الحق فى الحصول على رغيف خبر صالح للآستهلاك الآدمى. ونظل ندور فى حلقات مفرغة حول أنفسنا ، نجأر بالشكوى التى تستقبلها آذان صماء لاتسمع وإذا سمعت لاتستجيب للنداء.

التحاق الطلاب بالجامعات توجهه ثقافة مجتمعية تؤكد حق الطالب فى الإلتحاق بالكلية التى يريد مادام مجموع درجاته يؤهله لذلك ، ولأن الحصول على مؤهل جامعى يرفع – ولو قليلا – من قدر من حصل عليه . مجموع الدرجات وحدة لم يعد كافيا للمفاضلة بين الطلاب ، ولا هو معيار دقيق يبنى عليه تفوق منتظر للطالب فى دراسته الجامعية . وحتى الآن – وعلى الرغم من العديد من التوصيات فى هذا الشأن منذ عشرات السنين – لازال خريجو الثانوية العامة فى سباق محموم للحصول على أعلى الدرجات .. سباق نتج عنه ممارسات مضحكة تتيح للطالب أن يحصل على مجموع درجات يتجاوز 100% أى أن لدينا طلاب تفوقوا على أينشتين ونيوتن وجاليليو مجتمعين . مشكلة الأعداد الكبيرة نحن سببها لأننا قررنا فى مصر أن يكون التعليم قرارا سياسيا ، وهو عندى ليس كذلك ، فالقرار السياسى قد لايكون بالضرورة قرارا عادلا يقوم على الفرص المتكافئة وإنما تحكمه عوامل أخرى يضعها السياسى فى الحسبان لكى يحقق مكاسبا من خلال مداعبة أحلام الناس ودغدغة مشاعرهم . هناك كليات تشغل حيزا داخل الحرم الجامعى يمكن أن نفرغها كلها أو معظمها من الطلاب فنعيد للمدرج الجامعى كفاءته وقدرته على التعامل مع أعداد معقولة من الطلاب . كليات الأعداد الكبيرة التى أسميها "كليات شعبية " لأنها مثل الأكلات الشعبية فى متناول كل فئات الطلاب دون تمييز وعدد الطلاب بها يبلغ 45ر77% من عدد الطلاب مثل التجارة والحقوق والأداب لايحتاج طلابها الحضور إلى الجامعة يوميا كما هو حادث . لماذا لانشجع الطلاب على استخدام أساليب التعلم عن بعد والتعليم المفتوح ونجعل ذلك ميسرا لهم ونساعدهم على بلوغ الأمل المنتظر بإنهاء تعليمهم الجامعى باستخدام كمبيوتر بإمكانات بسيطة نوزعه عليهم مجانا بدلا من الفاقد الذى يحدث نتيجة " للاتعليم " الذى يحصلون عليه مكدسين فى مدرجات وقاعات تدريس تصلح لأى شيئ سوى أن تكون مكانا لتلقى العلم.

لماذا يصر وزير التعليم العالى أن يمتد نفوذه إلى الجامعات الأهلية والجامعات الخاصة فيخنق قدرتها على حرية الحركة لكى تصبح بمرور الزمن نسخا قميئة لجامعات حكومية وصل بها الحال إلى ماوصلت إليه . الجامعات الأهلية – وأسفى على ماوصلت إليه رائدة هذا النوع من الجامعات بعد مائة عام من إنشائها كانت كفيلة بأن تتبوأ مكانا ومكانة بين جامعات العالم وأن يتخرج منها علماء أفذاذ نفخر بهم – حل أمثل لمشكلة الأعداد الكبيرة من الطلاب ، فلماذا نريد أن نسلمها للبيروقراطيين من موظفى الوزارة ومستشارى الوزير يضعون العراقيل فى طريقها ، ويعطلون مسيرتها ؟ أنا أرى أننا بحاجة إلى حملة قومية مخططة تخطيطا جيدا توجه للرأى العام فى مصر للتمهيد لمشروع قومى يتولاه أصحاب الخبرة من العاملين فى مجال التعليم والشخصيات العامة التى تحظى باحترام مجتمعى ولها إسهامات مضيئة تزكيها، وتكون مهمة اللجنة التى يناط بها ذلك إعداد مشروع متكامل للتوسع فى إنشاء الجامعات الأهلية والكليات التابعة لها والبرامج الدراسية والمناهج المختلفة بها وكيفية تمويلها وتوفير الموارد اللازمة لجامعة محترمة من أعضاء هيئة تدريس ومنشئات ومعامل . ويدير تلك الجامعات مجالس أمناء تكون بمثابة مجالس إدارات الشركات لها حرية اتخاذ القرارات التى تطور الجامعة وتحدثها وتحقق الأهداف الإستراتيجية من إنشائها. دور وزارة التعليم العالى ينبغى أن يكون قاصرا على اعتماد البرامج ومعادلتها وتوافر الحد المعقول من أعضاء هيئة التدريس، ولاينبغى أن يمتد إلى التحكم والسيطرة بحال فليس فى ماضى الوزارة إنجازات ونجاحات تجعلها تطالب بهذا الحق فى جامعة سوف يقوم الناس بتمويلها بالكامل.

وماذا عن النقص الهائل فى أعداد المدرسين بوزارة التعليم ، ولماذا لانشترط على من يريد تعليما عاليا مجانيا أن يلتحق أو يكلف بالعمل بوزارة التربية والتعليم ( ليتها كانت كذلك ) ، ولماذا لانتوسع فى إنشاء كليات للتربية تخرج هؤلاء المدرسين الذين تحتاجهم المدارس التى تبدأ عندها رحلة التعليم وتمثل مخرجاتها جوهر مستوى التعليم العالى ومستقبل خريجيه ؟ وهناك العديد من المعاهد العليا الجاهزة لاستقبال الطلاب الذين يلتحقون بالتعليم العالى موزعة على أنحاء الجمهورية ، لماذا لانلزم طلاب الأقاليم بالإلتحاق بها فى التخصصات التى تتواءم مع قدراتهم التى يحددها منهج واضح للمفاضلة والقبول يقوم أساسا على قياس قدرات الطلاب المتلحقين بالتخصصات المختلفة وميولهم كما قلنا قبلا ؟ وإذا كانت تلك المعاهد غير كافية فلنتوسع فى إنشاء المزيد منها . بل إننا نستطيع أن نقسم الجامعات الكبرى إلى أكثر من جامعة حتى لو ضمها جميعا مبنى واحد حتى تسمح إمكاناتنا ببناء المزيد من الجامعات . بل أنى أدعو – وسط هوجة الخصخصة الموجودة الآن - إلى خصصخة عدد من الجامعات لكى تصبح جامعات تجريبية يطبق بها نماذج للجامعات الأهلية . إننا لو وفرنا لخريجى الثانوية العامة نوعا من التوجيه والإرشاد حتى قبل أن ينهوا المرحلة الثانوية يساعدهم على حسن الإختيار للكليات والمعاهد التى تتناسب مع أمكاناتهم وقدراتهم بمقاييس علمية حقيقية تساعدهم على التفوق فسوف نقضى تدريجيا على التكالب للالتحاق الجامعات كمظهر اجتماعى وحق مجانى يشجع على الاستمتاع به والتجريب دون إصرار على التميز ، أما مجانية التعليم فقد أصبحت تمثل استنزافا منظما لموارد الجامعات خاصة أمام عجز الحكومة عن توفير الميزانيات اللازمة التى تحتاجها الجامعات باعتراف وزير التعليم العالى فى رده على رئيس الهيئة القومية للجودة والذى أكد فيه على أنه لاتأهيل ولااعتماد ولايحزنون قبل سنوات طويلة .. طويلة .. أمد الله فى عمر الوزير وعمر مستشاريه وعمر وزارته !

No comments: