Tuesday, January 13, 2009

إصلاح فساد التعليم فى مصر : البحث العلمى والكتاب الجامعى

المسمى الرسمى لوزير التعليم العالى فى مصر هو " وزير التعليم العالى والبحث العلمى " وفى ذلك تأكيد على أن البحث العلمى لابد وأن يولد من رحم الجامعات وينمو ويكبر فى كنفها وحضنها وتحت رعايتها . والبحث العلمى وعدد العلماء فى أى جامعة هما الأساس الذى يقاس عليهما مكانة الجامعة وترتيبها على المستوى العالمى . وبديهى أن العلماء هنا ليسوا عدد الحاصلين على درجات الدكتوراه فى تخصصاتهم ، وإنما يتجاوز ذلك إلى حصولهم على تقدير عالمى يتمثل فى عدد البحوث التى نشرت لهم فى المجلات المتخصصة والمحكمة ، وعدد جوائز التقدير التى حصلوا عليها من المراكز البحثية المعترف بها ، والدرجات العلمية الشرفية التى تمنح لهم من الجامعات المحترمة تقديرا لجهودهم العلمية ، بل إن منهج المفاضلة بين الجامعات الآن أصبح يعتمد على عدد أعضاء هيئة التدريس الحاصلين على جوائز نوبل فى مجالات تخصصاتهم . وهذا يفسر لماذا لايوجد أى تصنيف عالمى لجامعاتنا وغيابها عن أى قائمة تصدرها أى جهة علمية تطبق معايير المفاضلة بين الجامعات. إن ميزانية البحث العلمى فى مصر أقل من 1% من الدخل القومى مقارنة بدول عربية أخرى أخرى تخصص من 6 – 8 % ولاعجب بعد ذلك أن تتفوق تلك الدول علينا من ناحية مستوى التعليم العالى بها وحصول عدد كبير من جامعاتها على الإعتراف الذى يتيح لها أعتماد درجاتها العلمية وفتح آفاق استكمال الدراسة لطلابها بدول العالم المتقدم ومايترتب على ذلك من نبوغ وتميز للموهبين منهم لكى يستكملوا مسيرتهم العلمية ويرتفعوا إلى مصاف العلماء . كان لدينا فى مصريوم أن كان لدينا تعليما عاليا محترما درجة رفيعة فى الكادر الجامعى تسمى " أستاذ كرسى " يحتلها من تؤهله دراساته وأبحاثه المتميزة والحاصلين على دكتوراه العلوم إلى جانب حصولهم على دكتوراه الفلسفة فى تخصصاتهم . كانت تلك الدرجة العلمية مطمحا للأساتذة فى أن يكونوا مرجعية متفردين فى تخصصاتهم وأن يكونوا دائمى البحث لكى يصبحوا أهلا لتلك المكانة المحترمة بين أقرانهم ، وكان ذلك تشجيعا عظيما للبحث العلمى فى جميع التخصصات . وبدلا من أن نشجع زيادة عدد الدرجات من هذا النوع قمنا بإلغائها حتى يتساوى الجميع وحتى نوزع بالعدل بل ونرسخ ماهو سائد الآن فى جامعاتنا بأن الحصول على الدكتوراه هو نهاية المطاف لأى أستاذ جامعى توفر له الاستقرار والحرية التامة فى ممارسة عمله دون التقيد بخطط بحثية أو إلتزامات أكاديمية داخل منظومة التعليم العالى .

لقد بلغ حجم الإنفاق على البعثات (4720 بعثة ) مابين ابتعاث إلى الخارج أو بعثات داخلية أو بعثات إشراف مشترك أو مهمات علمية مابين عامى 2002 – 2007 أكثر من مليار ونصف جنيه وهو مبلغ ضئيل بكل المقاييس. مولت وزارة التعليم العالى تلك البعثات بالكامل من ميزانيتها بينما لم يتعدى عدد المنح التى حصلت عليها الوزارة من جامعات خارجية لأكثر من 300 منحة ، ولايتجاوز عدد البعثات الخارجية العلمية للحصول على درجة الدكتوراه 89 بعثة فقط . والسبب فى ضآلة هذا العدد أن جامعاتنا كما قلت ليس لها تصنيف عالمى ، والجامعات التى تقدم منحا لأعضاء هيئة التدريس بجامعاتنا تفعل ذلك لأسباب سياسية أكثر منها إيمانا بعائد المنح التى نحصل عليها منهم . ومع إيمانى الكامل بضرورة سفر أعضاء هيئة التدريس إلى الخارج والاحتكاك بالأجواء العلمية للجامعات المحترمة والتعرض للثقافات المختلفة ، إلا أنى أعتقد أن البعثات التى تدعمها الحكومة على وجه الخصوص يمكن توفير الجزء الأكبر منها ليتم هنا فى مصر دون سفر المبعوث إلى الخارج مثل بعثات العلوم الإنسانية والعلوم التجارية لكى نوفر مايصرف عليها لعلوم أخرى تحتاجها مصر لكى تنهض وتتطور وتنمو ومن ثم نعطيها الأولوية فى الإبتعاث . ولعل من المضحكات المبكيات أن الوزارة تتباهى فى تقاريرها بأنها استطاعت أن تعقد فى الفترة مابين 2003 – 2008 أتفاقيات ثنائية مع العديد من الدول ( 269 مع الدول العربية ، 148 مع دول آسيوية ، 300 مع جامعات أوروبية ، 112 مع جامعات أمريكية ) ومع ذلك فإن حجم المنح فى مستوى متدنى كما بينا وهذا دليل آخر على أن التناول بيروقراطى بحت يعنى بالتوقيع على اتفاقيات وحفظها بالأدراج دون تفعيلها ليستفيد بها أعضاء هيئة التدريس فى جامعاتنا . أما كيف توزع البعثات فتلك قصة أخرى من قصص فساد التعليم العالى التى تحتاج " جهازا لمكافحة الفساد العلمى " سوف نتناولها مع تفشى السرقات العلمية فى حديث منفرد .

الغالبية العظمى من جامعاتنا الحكومية السبعة عشر ليس لديها خطط للبحث العلمى ، ولا أفهم كيف يكون هناك جامعة حكومية معتمدة تصرف عليها الدولة وتتبع وزارة من أهم وأخطر الوزارات فى مصر ولايكون لديها خطة للبحث العلمى تعبر عن الخطط العلمية لكلياتها المختلفة ثم نتحدث بعد ذلك عن تخلفنا العلمى وتدهور التعليم العالى عندنا . كيف إذن يمكن لنا أن نكتشف المواهب بين طلابنا ، وكيف يمكن أن يتحقق العدل فى اختيار من يتمتعون بالبعثات لكى يعودوا إلى الوطن وهم " مشاريع لعلماء" نحتاجهم . إن الحقائق المذهلة التى تحتويها تقارير التنمية البشرية المختلفة عن منطقتنا تجعل أى غيور على مستقبل التعليم العالى فى مصر يتوارى خجلا . نحن ضمن منطقة لاتصرف على البحث العلمى أكثر من نصف بالمائة من دخلها القومى على البحوث والتطوير ، ولايستخدم الكمبيوتر فهيا أكثرمن 2ر1% من مجموع السكان ، ولا يستخدم الإنترنت بها إلا نصف فى المائه ، وكلها أدوات أساسية لازمة لخدمة البحث العلمى لايستغنى عنها الباحث للتواصل مع المراكز البحثية والإطلاع على أحدث ماوصل إليه العلم فى مجالات التخصص المختلفة. يصدر فى إسرائيل التى لايفصلها عنا إلا خط الحدود فى سيناء والمصنفة رقم 100 بين أصغر دول العالم والتى يبلغ تعداد سكانها واحد على ألف من عدد سكان العالم 109 بحثا علميا لكل 000ر10 نسمه فكم عدد البحوث التى نصدرها نحن بكل مالدينا من إمكانات وجامعات ومراكز بحوث تتبع جهات أخرى غير وزارة التعليم العالى . لاشك أننا نحتاج هنا إلى جدية تحفظ لنا ماء وجهنا حين نتكلم عن البحث العلمى ، وأول إجراء ينبغى اتخاذه أن تعود وزارة البحث العلمى ويتولاها عالم من علماء مصر الأفذاذ يعرف قدر العلم والعلماء وأن يتوافر لتلك الوزارة كافة الإمكانات التى تمكنها بالتعاون مع الجامعات أن تعد جيلا من العلماء يشاركون بعلمهم فى تحديث مصر التى تخلفت بصورة لم يعد يجدى معها "الترقيع"، أما أن يتولى وزير واحد تحيط به مجموعة من البيروقراطيين "يطبخون" له القرارات التعليم العالى والبحث العلمى معا فذلك أكثر من إمكاناته الفنية والشخصية معا ولاينتج عنها سوى مانعانيه الآن من تخلف وعدم جدية فى التأقلم مع متطلبات عصر المعرفة .

أما الكتاب الجامعى فيعد سببا رئيسيا من وجهة نظرى لتخلفنا العلمى حيث فوضى تأليف الكتب بلا ضوابط أو منهج يحكمها ، وفرضها على الطلاب من الغالبية العظمى من الأساتذة كصك يضمن اجتياز الطالب للإمتحان الذى يأتى دائما من المقرر الذى هو فى نفس الوقت الكتاب الذى قام الأستاذ بتأليفه ويعتبره جماع الحكمة كلها ولايصح ولايجوز الإقتراب منه تعديلا أو تحديثا حتى لو مضى على تأليفه ربع قرن أو يزيد . تعاد طباعة الكتب ، وسوق توزيعها جاهز على طلاب هم ضحايا نظام تعليمى فاسد ويتلهفون على الإنتهاء دراستهم والحصول على درجاتهم العلمية بأى شكل .. نظام يعطى لعقولهم أجازة ، ويصادر على رأيهم ، ويلزمهم بقبول مقررات لايختارونها. أعرف أساتذة عرض عليهم التفرغ الكامل لما يطلق عليه "مشروعات تطوير التعليم العالى" بمرتب شهرى ثابت فرفضوا لأن ذلك سوف يحرمهم من التدريس ومن بيع كتبهم التى تدر عليهم أضعاف مايعرض عليهم من مرتبات. أصحاب القضية نفسها يبيعونها للأسف نظير حفنة جنيهات ، ولكننا فى النهاية لابد وأن نسأل ماالذى حدا بهم إلى هذا التغير الجذرى فى قيم مجتمع الجامعة . وتلك قصة أخرى سوف أتناولها فى مقال قادم عن استقلال الجامعات الذى انتهك وينتهك كل يوم . فليصدر الأساتذة مايشاءون من كتب تباع فى السوق الحرة ويقتنيها من يريد من الطلاب كمراجع ، ولكن المناهج التى تدرس لابد وأن تعتمد على تشجيع الطلاب على البحث من مصادر مختلفة وإعمال عقولهم فى الربط بين مايدرسون ومايحدث حولهم ، وأن يقوموا بتحليل الظواهر المختلفة ذات العلاقة بما يدرسون . أنا أقترح هنا أن يمنع تقرير كتاب الأستاذ فى أى مادة يقوم بتدريسها فذلك فى نظرى "تعارض مصالح" يجعل الأستاذ موضع شبهة . وسوف يجد البعض طريقة ليقولوا أنهم لم يقرروا كتبهم على الطلاب ولكن الطلاب يقومون بشرائها بمحض إراتهم ، ولكننا نعلم جيدا الطرق والأساليب التى تتبع فى "إقناع" الطلاب بشراء كتاب أستاذ المادة تماما كما تعلمها الوزارة التى لم تحرك ساكنا فى هذا الشأن. وهذه النقطة بالذات هى السبب وراء عدم تطوير البرامج والمقررات بأكثر من 96% من كليات جامعات مصر إلكترونيا لكى يتم التعامل معها إلكترونيا مثلما هو الحال فى كل جامعات الدول حولنا.

الذى يدهشنى ولاأجد له إجابة شافية هو : إذا كان الوزير يتعلل فى لقاءاته وفى أجهزة الإعلام بقلة الميزانية المخصصة لوزارته (أخبار اليوم بتاريخ 3/1 الجارى) بما يجعله عاجزا عن تطوير البحث العلمى والنهوض به فماالذى يمنعه من الإستقالة ؟ إننى لاأعرف طريقا آخر يسلكه كل صاحب قضية يشترط أولا أن يتوافر له الحد الإدنى من الموارد لكى يقوم بواجبه الوظيفى ويحاول زيادته طبقا لخطة علمية مفصلة بعد ذلك ، فإذا لم يتحقق ذلك فمعناه أنه قبل مسبقا ووقع على بياض أن يفشل فى مهمته ، إلا إذا كان يريد أن يجنى مزايا المنصب الرفيع الذى يحتله ويلقى بمسئولية الفشل على الدولة التى لم توفر له الإمكانات . سيادة الوزير يعلم أكثر من غيره أن ميزانية التعليم يصرف منها أكثر من 80 % مرتبات وحوافز وما يصرف فعليا على العملية التعليمية بالجامعات لايتجاوز 20% يخصص منها جزء بسيط جدا للبحث العلمى لايكفى لإرسال بعثات أو حتى لشراء أبسط المعدات اللازمة لمعمل أى كلية عملية فى مصر. معنى ماقلت إما أن يكون ذلك مقبولا على مستوى الوزارة والدولة وتلك كارثة كبرى ، وإما أن هناك نوع من " التعمية " على القيادة السياسية بتقارير كاذبة تؤكد كالمعتاد أن هناك خطة استراتيجية متكاملة تلتزم الوزارة بتنفيذها لإصلاح جودة التعليم ، وتلك كارثة أكبر.

No comments: