ماذا تفعل لو كتب لك أحد طلابك رسالة في نهاية البحث الذي قدمه في مادة «أخلاقيات العمل» يقر فيه بأن البحث ليس كله من إعداده وأنه قد كلف شخصا آخر بكتابته ويحدد أجزاء البحث التي أعدها بنفسه ثم يعتذر عن ذلك «بعد أن استيقظ ضميره صباح اليوم المحدد لتقديم البحث لإدارة الكلية»؟ كان ذلك ومن أصعب المواقف التي صادفتني في حياتي الأكاديمية، وجعلت السؤال مادة للحديث مع خاصة أصدقائي وزملائي بل وأسرتي الذين تباينت آراؤهم بين ضرورة رسوب الطالب مادام قد اعترف بالغش، وإنجاحه مكافأة له علي «أمانته» واعترافه بالذنب.. وكلما طرحت الموضوع للنقاش تيقنت من الاختلاف الكبير بين الناس في تفسيرهم لقواعد الأخلاق ولازددت وعيا بتشابك العناصر التي تشكل ما يمكن أن نسميه «الوجدان الأخلاقي» لدي الناس والتأثيرات المتعددة التي يتعرضون لها والروافد المختلفة التي تصب في تشكيل هذا الوجدان كالدين والبيت والمدرسة والأصدقاء ومحيط العمل والتجارب الحياتية المختلفة في إار الثقافة المجتمعية العامة والمنطقة التي نعيش بها كلها تسهم في «تعلمهم» وتشكل سلوكهم بل إن المهنة نفسها وثقافة المؤسسات التي نعمل بها تعد «مكونا أخلاقيا» يؤثر سلبا وايجابا في سلوك أي منا.
عطلت النتيجة حتي اهتدي الي طريقة أواجه بها ذلك الموقف الصعب المشحون بجرعة مركزة من الصراع بين الثواب والعقاب علي سلوك يبدو في ظاهره عاديا لو قسناه علي «مسطرة» فساد التعليم التي ابتلينا بها، وبين استغلال ما حدث لكي أؤكد المعني والدوافع وراء سلوك الطالب وشجاعته في الاعتراف بالخطأ.. انتابتني الحيرة وتصارعت المشاعر بين الفرحة من تأثير البرنامج الذي قمت بتدريسه، وبين استثمار قرار الطالب لكي «أثبت» سلوكه الأخلاقي بحافز مناسب للحالة وظروفها يساعد علي التمسك بهذا السلوك الايجابي.. اهتديت أخيرا الي أن أمنح الطالب الدرجات التي يستحقها عن الأجزاء التي أقر بأنه مسئول عنها وأعطيته صفرا عن باقي أجزاء البحث، ولكني أيضا قمت بكتابة تعليق علي ما كتب أحييه علي شجاعته أولا ثم أقول: «إنني لذلك قد غلبت حسن الظن والثقة في مسئوليته عن بعض أجزاء البحث وأعطيته مايستحقه عنها من درجات، وحثثته علي تحمل نتيجة ما فعل فهو الطريق الصواب، ودعوت له بالنجاح ودوام التوفيق». السؤال الأصعب الذي ظل يطاردني لعدة أيام هو: هل تأثر حكمي بما حدث فمنحته درجات أكثر مما يستحق لكي يحصل علي الحد الأدني للنجاح؟ الغالب أن ذلك قد حدث ولكني لست نادما عليه.
ذكرني ذلك بقضية مثارة حاليا المتهم فيها رئيس لأكاديمية تابعة للجامعة العربية بتبديد عدة ملايين من أموال الجامعة التي كانت مخصصة لمشروع ما، وكيف أنه ومساعديه كانوا يقومون ولا يقعدون حين يشمو طالب من أستاذ يحترم نفسه، وعلمه فلا يسمح بالتسيب في فصله ويطبق العدالة في تقدير مجهود الطلاب ويفاوضون الاساتذة بدلا من الطلاب لكي «يرفعوا» الدرجات ويتساهلوا في إدارة الفصل بما يسمح للطلاب باستخدام الموبايلات والتأخر عن مواعيد المحاضرات وعدم تقديمهم للبحوث المكلفين بها في المواعيد المقررة.. حول الرجل ومساعديه ممن يسميهم «حمير شغل» من غير المؤهلين لمثل تلك المناصب الأكاديمية الي «بوتيك» علمي يمنح شهادات لطلاب لا يتعلمون نظير المظروفات الباهظة التي يدفعونها.. أقول ذلك لأن الرجل الذي يسيء الي مصر أبلغ إساءة بين الدول العربية التي تسهم في ميزانية الجامعة والتي استغلها للحصول لنفسه ومساعديه علي جوازات سفر دبلوماسية وحصانة ومرتبات ومزايا تفوق الخيال يقيم الدنيا الآن ولا يقعدها دفاعا عن أخلاقه وذمته ونزاهته علي الرغم مما قلت وكنت شاهدا عليه، وطبيعي أن يتحالف مع أستاذ جامعي من نفس مدرسة الفساد كان يدير مركزا تابعا للحكومة يكرس للتوريث شغل في غيبة من الزمن منصبا وزاريا ثم خرج أخيرا في التعديل الأخير لم يتورع عن تعيين زملاء زوجته وعميد الكلية التي تعمل بها في وظائف مستشارين بالمركز الي جانب أبناء وأقارب رموز حكم مبارك لكي يلحق ابنه الخريج الجديد مديرا بمرتب خيالي تبادلا للمنفعة تلك كانت قواعد أخلاق عهد مبارك.
فساد التعليم بالنسبة لي هو أبشع أنواع الفساد لأنه يستهدف عقل الإنسان مثلما تستهدف الآفات قلوب الأشجار فتحولها الي جذوع خاوية لا تثمر ولا يستفاد حتي بظلها في يوم حار.. يتحول الإنسان غير المتعلم ولكنه يحمل رخصة تقول عكس ذلك تدريجيا الي بؤرة جهل ينشر جهله في كل مكان يذهب اليه، ويفسد كل ما يعمله بادعائه المعرفة ويخرب ما يتاح له من موارد بسوء الإدارة والسفه، وينفذ ما يطلب منه بجهل، ويصبح مسلوب الإرادة ينساق وراء تيارات تجرفه حيث تشاء، ويخفي أخطاءه ويتفنن في عدم إظهارها، ويتعلم الوصولية والنفاق يعوض بهما نقص علمه وخبرته، ولو شاء سوء الحظ أن يتولي منصبا يسمح له باختيار مرؤوسيه فإنه يختار من هو أضعف منه ولا يطيق من يتفوق عليه لأنه يصبح تهديدا يهز مكانته ويسترعي الانتباه لجهله وعدم كفاءته.. المديرون ومتخذو القرارات من عينة هؤلاء هم أسوأ وأكبر ضرر يمكن أن يلحق بدولة ما لانتشارهم انتشارا سرطانيا في كل المؤسسات يتكاثرون مثل الأرانب ويحولون تلك المؤسسات الي جحور وأوكار عشوائية تؤوي أمثالهم أو آخرين يفرضون عليهم من «أولياء نعمهم» من السادة الذين أتوا بهم وذلك يفسر الخراب المؤسسي الذي منيت به مصر في ظل نظام مبارك الفاسد الذي لن تفلح كل «مطهرات» الدنيا في تنظيفه لسنوات طويلة قادمة.
No comments:
Post a Comment