لم تعد صورة مصر التى عبر عنها شوقى وحافظ إبراهيم، والتى شهدت إجماع الإرادة الشعبية على زعيم يخرج من صفوف الشعب ويعبر عن إرادته ويقف فى وجه الحكام يتحدث باسمهم ويطالب برفع الظلم عنهم بل ويخلعهم إذا لم يستجيبوا للإرادة الشعبية .. تمثلت زعماء مصر من أول عمر مكرم ومحمد كريم وعبد الله النديم إلى جمال عبد الناصر ثم أنور السادات مرورا بعرابى وسعد زغلول، واستحضرت دور الأزهر فى قيادته للحركة الوطنية والتفاف الناس حول علمائه وأنا أرى السيرك الجديد بحجم مصر كلها الذى يحاول أصحابه أن يتفوقوا على "سيرك مبارك القومى" الذى احتكر سوق السياسة فى مصر لثلاثة بحفنة من المهرجين والغجر استطاعوا أن يخدروا باقى الشعب وتحويله إلى متفرجين يجلسون فى مقاعدهم يتسلون بالعرض ومن حين لآخر توزع عليهم إدارة السيرك أكياس التسالى تلهيهم عن اكتشاف ألعاب الحواة والسحرة .. قلت لنفسى: ماذا لو أصبحت رئيسا لمصر ليوم واحد؟ ماهو القرار الوحيد الذى سوف تتخذه فينقذ مصر مما هى فيه الآن؟" والغريب أنى لم أجد صعوبة ولا حيرة فى الإجابة على الإطلاق، ووجدتنى أقول: " تسوير ماتبقى من الصحراء الغربية وجعلها معسكر اعتقال أضع فيه كل بلطجية مصر وأخيرهم بين أمرين: إما تحويل الصحراء إلى مزارع فى عدة سنوات، وإما الإعدام".. وطبعا توقفت عند سؤال بديهى لابد وأن يتبادر إلى الذهن: " كيف يتم حصر البلطجية والقبض عليهم كلهم فى يوم واحد؟ " ومرة أخرى كانت الإجابة جاهزة: "هم موظفون لدى الدولة والوزارات التى تستعين بهم معروفة ولديهم كشوف جاهزة بأسمائهم وعناوينهم وتستطيع فى ظل حاكم مستبد مثلى أن تجمعهم وتضعهم حيث أشاء "
مبررات القرار كثيرة، فالتزامن الذى يتم به اختلاق الأزمات واحدة وراء الأخرى بجعل من الصعب على أى عاقل أن يتصور أن مايحدث محض صدفة أو من توابع ثورة 25 يناير .. بدأت الخطة بحملة منظمة لتشويه ميدان التحرير رمز الثورة الذى تردد اسمه فى كثير من انتفاضات الإحتجاج فى العالم بما فى ذلك أمريكا نفسها وتحويله إلى فرع لسوق العتبة يحتله الباعة الجائلون والبلطجية إلى درجة التجرؤ بتحويل الجزيرة التى كانت ملتقى الثوار فى الأيام الأولى التى شهدت ربيع الثورة ومليونيات تعديل المسار بعد ذلك إلى مطعم مفتوح وكراسى يجلس عليها زبائن عربات الفول وحمص الشام يشربون الشاى ويدخنون ويتحرشون بالمارة وبمارسون الرذيلة لو استطاعوا داخل خيام نصبوها للإندساس بين صفوف الثوار الحقيقيين .. يحدث ذلك تحت سمع وبصر الشرطة التى لاتتدخل إلا بعد أن يسقط القتلى والجرحى إما تقاتلا على احتلال أجزاء من الميدان، وإما نتيجة للمحاولات المستميتة لمن تبقى من المعتصمين بالميدان لإخلائه من البلطجية الذين احتلوه .. تلا ذلك حروب البالون وماسبيرو ومحمد محمود وبورسعيد، ثم أزمات طوابير العيش والبوتاجاز والبنزين والضحايا الذين تساقطوا وهم يحاولون أن يستخلصوا حقهم من بلطجية النظام "المعينين" بأجر مثلهم مثل أى موظف فى الدولة، وهذا هو المستوى الأول للبلطجة التقليدية.
أما المستوى الثانى من خطة البلطجة وإشاعة الفوضى فى مصر والتى جاء ذكرها عرضا فى الخطاب قبل الأخير لمبارك – ربما عن غير قصد – بلهجة تحذيرية فى معرض التهديد للثوار، والتى أحسب أنها كانت معدة سلفا تحسبا لأى انقلاب على نظام مبارك فهى "البلطجة السياسية" ومن أعدوها وينفذونها الآن تدربوا جيدا على هذا النوع من الأعمال القذرة ولايظهرون كثيرا فى الإعلام حتى لايعرفهم الناس وإن ظهروا فبوجوه جامدة وصمت مريب ثم يختفوا ليعملوا من وراء ستار لتنفيذ الخطة التى وضعوها من خلال أجهزة الأمن المختلفة ذات التاريخ الطويل فى القهر والتآمر والمستمرة فى عملها منذ أيام المخلوع والتى تدير بلطجية النظام فى المواقع المختلفة وتحركهم بما يحقق الأهداف التى وضعت مسبقا.. هؤلاء ليس لهم فقط عملاء فى الأحزاب السياسية يأتمرون بأمرهم وينفذون إرادتهم فى إضعاف تلك الأحزاب وجعلها قطعا على رقعة الشطرنج السياسى لتنفيذ مخططاتهم والإبقاء على شكل للمعارضة يخدع الناس ويجمل وجه أى نظام بخلق أحساس كاذب بوجود تلك المعارضة، وإنما بلطجية أطلقهم لكى يسفهوا ويحقروا مقام رئاسة مصر بتقدمهم للترشح وبيهم الأمى الذى لايقرأ ولايكتب والكفيف والمقعد والبائع الجائل والحرفى فيصل عددهم حتى كتابة هذا المقال أكثر من ألف.
من وضعوا خطة الفوضى يضعون أعينهم على كرسى الرئاسة لكى يعاد انتاج نظام مبارك بشكل جديد، وتستمر طبقة النبلاء فى حصد المزايا والمنح والمكاسب التى حصلت عليها فى ظل فساد النظام، وهى على استعداد للتحالف مع الشيطان لكى يحدث ذلك، وهى تمارس نفس الأساليب فى الترهيب والترغيب والإقصاء لرجالات هذه الأمة ونسائها من المبرزين حتى يخضعوا لإرادتهم أو تضع بدلا منهم عرائس ماريونيت يحركونها من وراء ستار يخدعون الرأى العام فى الأحزاب السياسية والإعلام والهيئات والمصالح الحكومية التى لايزال يجلس على قمتها رجال مبارك يديرون دولة الثورة بأساليب نظام الفساد وأدواته ويحافظون على مغارات على بابا التى امتلأت بكل ماطالته أيديهم من ثروات مصر وخيراتها لأنفسهم ولأبنائهم من بعدهم .. قرار اليوم الواحد بترحيل كل هؤلاء إلى معسكرات العمل سوف يمهد الشارع السياسى لأطهار الثورة حتى تضع مصر أقدامها على أول الطريق لتحقيق أهداف الثورة والثأر لدم الشهداء.