احترت كثيرا فى
توصيف حال مصر حاليا والصراعات المدمرة التى تدور بين القوى المتنازعة على إثبات
الوجود بأساليب ووسائل تكذب كل الإدعاءات بأن المتصارعين يدفعهم الحرص على الوطن وضمان
أمنه وسلامته وتحقيق أهداف الثورة والمشاركة فى تقرير مستقبل مصر .. ولم أجد أبلغ
من بيت شعر للخليفة العباسى الذى لقب بالمرتضى بالله (وإن كان قد نسب إلى على
الكيلانى الشاعر الليبى بعد ذلك) يقول: إصبر على حسد الحسود فإن صبرك قاتله /
فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ماتأكله .. نعم، مصر الآن يضربها إعصار من الغل
والحسد والكراهية تشكل كرة هائلة من النار تكبر وتزداد اشتعالا وسوف تظل تتغذى على
ماحولها حتى تأتى عليه كله ثم تأكل نفسها حتى تتلاشى وتصبح رمادا يعفر وجه التاريخ
كلما جاء ذكر مافعلناه لبلدنا بأيدينا .. المشهد كئيب وينذر بأن كرة اللهب تندفع
فى جنون لتطيح بكل من يقف فى طريقها ولايمكن التنبؤ بمسارها، والإعصار القادم سوف
يفوق فى قوة دماره إعصار ساندى الذى أزال مدنا بكاملها فى بعض ولايات أمريكا ولكنه
لم يكسر إرادة الناس ولارغبتهم فى الحياة ولا استمرارهم فى تحمل مسئولية المشاركة
فى مواجهة الخطر وإعادة البناء والتطلع إلى المستقبل كما لو كانوا نموذجا بشريا واحد
تم استنساخه ليصبح شعبا يملأ قارة بكاملها ويحولها إلى مركز لإدارة العالم يستقر
إذا استقرت ويهتز إذا اهتزت.
الأحزاب المصرية –
والقوية منها على وجه الخصوص – فشلت حتى الآن فى الإتفاق على أهداف قومية تعبر عن
مطالب الناس وحقوقهم وتترجم أهداف الثورة إلى خطط وبرامج عمل يقدمونها للحكومة
ويشاركون فى تنفيذها، وقيادة تجمع شملهم لكى يصبحوا قوة ضغط شعبى هائلة يحسب
الحاكم حسابها وتعمل لها الحكومة ألف حساب .. تفرغت الأحزاب للتناحر على الزعامات
والمناصب وفرض وجهات النظر، وخرج كل فصيل ليكون تحالفا منفصلا أو يشكل حزبا جديدا
يضاف إلى القائمة الطويلة من الأحزاب التى لايسمع الناس عن أغلبها ولايعلمون أصلا
أنها موجودة ولا ماهى برامجها .. أصبحت التصريحات التى تذاع وتنشر بعد كل لقاء يضم
أحزابا فاصلا فكاهيا ومثارا للتندر يسرى عن الناس إلى حين ويمدهم بمادة جاهزة
للسخرية مما يحدث، وتحول الشارع السياسى إلى مسرح عبثى يبالغ فى الإضحاك حتى لو
تحول اللاعبون الأساسيون إلى بلياتشوا يصبغون وجوهم بكل الأصباغ التى تخفى
شخصياتهم الحقيقية وتظهرهم فقط بالوجه الذى يتفق مع الموقف.
النخبة استهلكوا
كل مفردات اللغة فى إظهار براعتهم الخطابية فى النقد والتعبير عن السخط والتدليل
على الخيانات والتآمر وتصفية الحسابات، وعصروا أدمغتهم لاختراع نظريات جديدة
للتآمر لاتخطر على بال أحد، والنبش فى ماضى الخصوم السياسيين واستخراج الملفات
القديمة بفضائح وتهم تقصيهم عن الحياة العامة .. عقدت المؤتمرات والندوات وتبارى
المتحدثون "يشخصون" الحال الذى يعرفه أبسط الناس فى مصر ولايحتاج لخبراء
لكى ينبهوا إليه، وتسابقوا فى الاستدلال وجمع الوثائق والأدلة والبراهين يردون بها
على بعضهم البعض فى "حفلات زار كلامية" يتسارع فيها أيقاع الكلام ويعلو
حتى يصبح صراخا هستيريا ويسقط الجميع فى نهاية الحفل بعد أن أصابهم الإعياء وخارت
قواهم ولم يقدموا حلا واحدا لمشكلة نواجهها ولا بدائل تعوض نقص الموارد الذى تدعيه
الحكومة مثلما ادعته من قبلها حكومات اللصوص والنهابين الذين خربوا مصر.
الإعلام وجد فيما
يحدث مادة غنية مجانية يملأ بها برامج الكلام التى أصبحت هى كل البرامج حتى
الرياضى منها .. ظهر "نجوم الكلام الجدد" فى كل البرامج يساعدهم على ذلك
قرب استديوهات التصوير من بعضها البعض فينتقل الضيف من محطة إلى محطة فى لحظات،
وأصبح "حملة الملفات" ينتهجون أسلوبا جديدا فى الإبتزاز السياسى
بالإشارة إلى ملفات أثناء حديثهم قد لايكون فيها سوى قصاصات من الورق الأبيض مثلما
يفعل النصابون الذين يوهمون ضحاياهم بتحويل الجنيهات إلى دولارات، وأصبحت الحلقة
الواحدة لاتكفى لاستكمال الموضوع ولا لسماع وجهة نظر كل الضيوف .. انتشرت
الفيديوهات – الحقيقى منها والمفبرك – على مواقع التواصل الإجتماعى تنهش فى أعراض
الناس وسمعتهم وتدنت لغة الحوار لكى تقترب كثيرا من السوقية بل تتجاوزها وتفوقها
فى السفاهة والفحش أحيانا، وتوارت اللغة العربية خجلا من مقدمى برامج يلجأون إلى
العامية هربا من جهلهم بقواعد اللغة وضيوف يعجزون عن التعبير عن أفكارهم بجمل
كاملة مفيدة ويخلطون بين مايبدو أنه لغة عربية وبين بعض الألفاظ الأجنبية التى
ينطقونها بطريقة تجعلك تتساءل: "إنجليزى ده يامرسى؟".. الموضوع كله يبدو
كما لو كان اغتيالا منظما للغة العربية.
كباريهات شارع
الهرم السياسى لم تعد مقبولة بعد الثورة، ومحترفوا الإستربتيز السياسى من
السياسيين لم يعد لهم مكان، "والنقوط" العربى سوف يجفف الثوار الحقيقيين
منابعه قريبا، وموردى فتوات الكباريهات مكانهم محجوز خلف القضبان، ومزاد الرهانات
على عودة نظام مبارك بصورة أو أخرى لن يستفيد منه سوى محترفى صالات المزادات من
مروجى التحف والأنتيكات، وخطط إرهاب رئيس الدولة بالقانون أصبحت مكشوفة، وتخويف
الشعب برموز التعذيب والقهر من تلاميذ العادلى لم يعد يخيف أحدا فشوارع مصر كلها
الآن تؤدى إلى قصر الرئاسة ومجلس الوزراء، والشعب كفر بكل الأحزاب وأصبح يتطلع
بشوق لتكوين حزب واحد إسمه "أولاد مصر" ومن بينهم سوف يظهر زعيم بحجم
سعد أو النحاس أو عبد الناصر أو السادات.
No comments:
Post a Comment