عملية زرع عقل؟!
طبيعة الأشياء
وحتى يعتدل ميزان الحياة أن يكون هناك حقوق للناس يسعون للحصول عليها والدفاع عنها
وتأمينها، وواجبات تجاه أنفسهم وتجاه الغير عليهم أن يؤدونها فى مقابل الحصول على
تلك الحقوق.. وطبيعى أن يختل ميزان المعاملات وترتبك حركة الحياة لو اختلت العلاقة
بين الإثنين وعلى وجه الخصوص حين تطغى الرغبة فى الحصول على الحقوق على الإلتزام
بأداء الواجبات، أو فى أيهما يسبق الآخر: أن نحصل على حقوقنا أولا ثم نؤدى ماعلينا
من واجبات أو العكس حين نلتزم بأداء الواجبات ثم نطالب بحقوقنا ونصر على نيلها ..
ومابين الموقفين درجات عديدة من الشجاعة والنبل أرفعها شأنا أن نؤدى ماعلينا من
واجبات فى كل الأحوال بغض النظر عن تعرضنا للظلم أو الإنتقاص من الحقوق أو التعرض
لبعض المظالم..الفرق بين الموقفين فى رأيى يكمن فى درجة الوعى بالمسئولية
الإجتماعية والإلتزام بنمط سلوكى وأخلاقى يتشكل فى وجداننا منذ الصغر ويكبر معنا
حتى يصير جزءا من تكويننا .. المشاكل تكبر تتعقد حين يتسع نطاق الخلل فيتجاوز
الأفراد إلى الجماعات ويتحول إلى هم قومى يتحور بالتدريج ليصبح حزءا أصيلا من
ثقافتنا يؤثر على قراراتنا وموقفنا من الحياة ، ويحول كل قضية خلافية إلى صراع دام
يحتاج إلى ساحات قتال تستخدم فيها كل وسائل العنف للقضاء على الرأى المخالف وفرض
الإرادة بالقوة الجبرية والتخويف والإرهاب.
حين تتحول الكلمات إلى حراب وسهام تدمى وتصيب فى
مقتل، ويتصاعد العنف فنستعين بأسلحة حقيقية تدمر وتحرق وتقتل لأنه لم يعد لدينا
قدرة على تقبل الخلاف فى الرأى والدين والمذهب والإنتماء السياسى فإننا نكون قد
خلقنا بأيدينا بيئة مناسبة لإشعال نيران الفتن، وإنهاك القوى، وضعف الإنتماء،
واليأس والإحباط، والشك والتخوين، وكلها مشاعر سلبية مدمرة تؤدى إلى تدمير ذاتى
لكل قدراتنا وتوفر على كل أجهزة المخابرات التى تلعب فى مصر الآن مليارات كانوا
سيخصصونها لتحقيق 10% مما نفعله بأنفسنا من خراب وتدمير للنفوس قبل الممتلكات ..
تصبح مصر بعد ذلك لقمة سائغة لقوى تحارب معاركها على أرضنا، وقوى محلية تتناحر
وتتقاتل للوصول إلى الحكم بكل الوسائل المتاحة لتصفية الخصوم بغض النظر عما إذا
كانوا بعد ذلك سوف يحكمون بإرادة حرة أم تحركهم قوى أخرى ترى فى مصر لقمة سائغة تضمن
لهم موضع قدم فى توجيه سياسة المنطقة بأسرها.
أخطر مايحدث فى
مصر الآن أننا نلغى عقولنا ونصير نهبا للعواطف والإنفعالات، وتصبح قراراتنا
عشوائية يمليها القلب لا العقل، وتتحكم فيها الأحاسيس وليس الإدراك الواعى لحقيقة
مايدور حولنا وبالمشاكل وأسبابها وطرق مواجهتها وعلاجها .. تختفى منطقية العقل
بالتدريج ويحل محلها سيكلوجية ردود الفعل ، وتحولنا الإنفعالات بالتدريج إلى قنابل
موقوتة قاتلة مدمرة حين تزداد ضربات القلب وإفراز العرق وتوتر العضلات ونترجم ذلك
إلى عنف أعمى وتسونامى يكتسح فى طريقه كل مايعترضه دون أن يفرق بين العام والخاص
أو العدو والحليف .. يصبح الخلاف تهديدا ويحولنا إلى كائنات أنانية لاترى سوى
نفسها ولاتشعر بما حولها، ندافع عن كياننا ضد أخطار قد لاتكون حقيقية أو مبالغ
فيها، ونتعامل مع الآخرين على أنهم خطر داهم ينبغى التخلص منه بأسرع وقت وأسرع
وسيلة تنهيه وتقضى عليه.
كل ماقلته يمثل
"صوبة" وبيئة صناعية غير طبيعية نزرع فيها العنف لينمو بسرعة، ولابد
للصوبات من بلطجية يحمونها ويدافعون عنها باستماته باعتبارها مصدرا مضمونا
للإرتزاق، يجنون المحصول ويسوقونه لحسابهم وحساب أسيادهم أصحاب الصوبات ويتصدون
لكل من يقترب منها أو يحاول تغيير شكلها ووظيفتها أو يستبدل "محصول
العنف" بورد أو قمح أو شعير .. عصابات من المرتزقة اغتصبت الأرض وتخطط الآن
لكى تغتصب الوطن كله من خلال الإختلاط بالثوار وتشويه الثورة والإنحراف بها عن
مسارها ومطالبها المشروعة .. من مصلحتهم أن يندسوا لكى يروجوا لبضاعتهم ويزيدوا النيران
اشتعالا بأنواع مستوردة من المواد سريعة الإشتعال والإنتشار، طويلة المفعول، تزكى
نيران النعرات الطائفية والحزبية والقبلية والفئوية وتبقيها مشتعلة لاتطفئها أى
جهود مهما عظمت.
مصر بحاجة إلى
عملية "زراعة عقل" جمعى يعيد إليها صوابها وتوازنها، وينظم حركتها،
ويعطل قدر المستطاع قوة الدفع الرهيبة فى اتجاه تدمير القوة الذاتية والموارد
ويحولها فى اتجاه التعمير والبناء والعمل .. ومالم يحدث ذلك قد يظل المريض حيا بمخ
يعمل تلقائيا ولكن ينقصه شريحة العقل التى ترشد الحركة وتضبط بوصلة الإتجاه.
د/ فتحى النادى
No comments:
Post a Comment