Wednesday, April 16, 2008

النمل الأصفر ... وشجرة الجميز ..!


هل يصدق أحد أن نتخلى طواعية عن 94% من الدخل القومى المصري لصالح الصين ؟ نعم ، 94% الذى تمثله الصناعات الصغيرة والمتناهية الصغر من إجمالى الدخل القومى لمصرأخذتها الصين " تسليم مفتاح " وجلسنا نحن نتفرج على المعجزة الصينية وطريقتهم فى اقتحام الأسواق إلى حد الطرق على الأبواب بيتا بيتا وشقة شقة من أناس يحملون بضاعتهم على أكتافهم يعرضونها على ربات البيوت والراغبين فى شراء منتجات رخيصة ذات جودة معقولة تصلهم من الباب للباب. جلسنا نتفرج ومعنا حكومة مصر الرشيدة كشجرة الجميز العتيدة الراسخة الجذور، بينما النمل الأصفر ينظم صفوفه ويتغذى على الشجرة من الداخل ، يراهن على غفلتنا وقناعتنا بأن الرياح العاصفة مهما بلغت قوتها لن تنال من شجرة الجميز ولن تستطيع أن تقتلعها من الجذور.
نمشى فى الأسواق فنرى العجب العجاب: سلعا من كل شكل ولون من أول لعب الأطفال إلى الملابس إلى الإدوات الكهربائية والمنزلية بل والآلات واجهزة الكمبيوتر والمحمول بمكملاتها تعرض بأرخص الأسعار فى المحال وعلى الأرصفة وعلى عتبات المنازل والشقق السكنية. جيوش من البائعين الكوماندوز يعدون بالآلاف يروجون لبضائعهم التى تجد قبولا لدى الغالبية العظمى من المصريين على اختلاف طبقاتهم الذين يتطلعون إلى امتلاك تلك السلع بأسعار يستطيعون تدبيرها. بل إنه فى بعض المحال تفاجأ بعمال صينيون يقومون بالبيع بدلا من المصريين لأنهم أرخص وأكثر تحملا وأدبا مع العملاء. وقد يقول قائل: " ألسنا اقتصادا حرا يترك السوق لآليات العرض والطلب ؟" وأرد بسؤال: " وهل يمنع ذلك أن ننافس بسلعنا وأن نترك للمستهلك القرار فى اختيار مايناسبه؟". وهنا مربط الفرس. ماذا فعلنا لكى تكون هناك فرص متساوية فى التعامل مع حجم الطلب فى السوق المصرى؟ وماذا فعلت الحكومة لكى تنمى من قدرات السوق المحلى على المنافسة؟ إننا بدلا من الاهتمام بالصناعات الصغيرة – وحجمها كما ذكرت – التفتنا للصناعات المتوسطة والثقيلة والتى لاتمثل أكثر من 6% فقط من إجمالى الناتج القومى ، والذى يصدر جزء ضئيل منه ويباع الباقى فى السوق المحلى، ولايرقى معظمه إلى مستويات الجودة العالمية التى تغرى باقتنائه. إننى حين استعرض سيناريو خراب مصر أستطيع أن أعرض هنا عينة من القرارات التى فتحت الباب على مصراعيه للغزو الصينى للسوق المصرى على حساب الصناعة المحلية. وأنا حين أفعل ذلك حرصت على أن يتضمن العرض حلولا مقترحة لعل وزراء بيع مصر، ووزراء الجباية ينتبهون إلى الخطر الداهم الذى نتعرض له ، وتغير الحكومة من سياستها – حتى إلى حين – لكى تنقذ مايمكن إنقاذه إتساقا مع سياسة " إطفاء الحرائق " التى تنتهجها، فمثلا:

· لماذا توسعنا فى مفهوم الشركات الخاسرة، واجتهدنا فى التخلص من بعض شركات القطاع العام، الذى لو غيرنا إداراتها ووفرنا التمويل اللازم لتطويرها لقامت بسد النقص فى بعض السلع البسيطة ، ولاستمرت فى توفير فرص العمل لملايين العاطلين الذين يبحثون عن عمل ولايجدون ؟ كان يمكن أن يجتذب مستثمرين يقبلون بالمشاركة ، أو يضغط البنك المركزى على البنوك لكى تمول الشركات والمشروعات التى يحتاجها السوق المصرى من السلع الرخيصة التى تسد احتياجات الغالبية العظمى من الناس.

· كم مشروعا تبناه الصندوق الاجتماعى – باستثناء عربات بيع الخبر والبوتاجاز والفاكهة – يشجع الشباب على إنشاء كيانات صغيرة وصناعات يدوية أو نصف آلية قليلة التكلفة يحتاجها الناس وتباع بأسعار رخيصة ؟ مصر تحتاج مثلا إلى حرفيين من كل نوع، وإلى مقاولين صغارا من الشباب نلجأ إليهم عندما نحتاج إلى الحرفيين فى أعمال النجارة والسباكة والكهرباء وميكانيكا السيارات وإصلاح الإجهزة المنزلية . الموضوع ببساطة لايحتاج إلا إلى إنشاء مراكز مجانية تابعة للصندوق الإجتماعى لتعليم الحرف يلتحق به من يريد تعلم حرفة أو أكثر من حرفة ويحصل على قرض بشروط ميسرة تتيح له أن يبدأ مشروعا صغيرا منفردا أو مع مجموعة من الشباب زملائه (صدق أو لاتصدق أن فى مصر الآن حلاقين صينين وكوريين يمكن استدعاؤهم إلى المنازل لقص شعر الرجال ، وتوضيب شعر النساء حيث يحضر الحلاق سيدة يقدمها على أنها زوجته لكى يقوما بعملهما وبسعر أرخص ) طبعا لن يطلب منهما أحد فاتورة قانونية على الأجر الذى يتقاضيانه، ومعذرة لوزير المالية الذى لن تجدى حملته هنا بأى حال.

· لماذا لاتتحول الأسر فى مصر إلى أسر منتجة كأنها وحدة إنتاجية صغيرة تتكون من الأب والأم والأبناء، يتعاونون على إنتاج العديد من الأشياء البسيطة التى يمكن صناعتها يدويا بخامات محلية قليلة التكلفة مثل لعب الأطفال والإكسسوارات والمفارش والتحف الخشبية والنحاسية؟ إن الصين قد غزت العالم كله – وليس مصر وحدها – بتحويل الأسر إلى مصانع صغيرة يعمل بها أفراد الأسرة بعد العودة من العمل الأصلى أو المدرسة أو فى وقت الفراغ ولاتحتاج فى تسويقها إلى أية ميزانيات أو تكلفة تنعكس على السعر حيث يقوم أفراد الأسرة بالإنتاج والتسويق والبيع بل والصيانة أيضا. إننا بهذا نكون قد زودنا دخل الأسرة ووفرنا فرص عمل بتمويل ذاتى وأتحنا سلعا بأسعار فى متناول الغالبية العظمى من شعبنا الفقير.

· هل أحكمنا الرقابة على دخول ومبيعات تلك السلع الصينية التى تباع بأقل من ربع نظيراتها المصرية، وحصلنا الضرائب المستحقة عليها. وإذا كنا لانتستطيع سد ثغرات التهريب، وفرض الرسوم الجمركية احتراما لاتفاقيات عقدناها أو تطبيقا "للجات" فليس هنا قانونا مايمنع من تحصيل الضرائب المستحقة بالطرق القانونية بدلا من "اختراع" ضرائب بمسميات جديدة، وتوجيه مدفعية الجباية الثقيلة إلى الداخل لنسف قدرات الناس فى مصر على المواءمة بين الدخل المتدنى والاحتياجات المتزايدة.

إننا ياسادة فى معركة " تكسير عظام " الاقتصاد المصرى ، ليس فقط من الغزو الخارجى والنجاحات التى تحققت فى اختراق السوق المحلى، وإنما بسياسات كلية تجاهلت أصول المسائل وجذورها، وتعاملت مع الأعراض تريد أن تخفيها باعتبارها عورات تفضح قصورنا فى التخطيط والإدارة، وليست الأمراض التى لو عولجت لاختفت كل الأعراض ولتعافت مصر من أمراض الكهولة التى أصابتها مبكرا . وتلك قصة أخرى.

No comments: