Tuesday, May 06, 2008

المطبخ السياسى وتأثيره على صانع القرار

أسلوب الصدمة الذى اتبع فى إعلان حركة المحافظين وتعديل حدود المحافظات وإضافة محافظتين جديدتين ليس له فى نظرى غير معنى واحد : إن التشدق بأننا دولة مؤسسات ينبغى أن يتوقف حتى لانصبح مادة ثرية للسخرية فى المحافل الدولية ، وحتى لاتزيد فجوة الثقة بين الشعب والحكومة التى تفقد مصداقيتها بسرعة الصاروخ بعد أن كادت تصبح حكومة ظل لحكومة أخرى يبدو أنها تعمل تحت الأرض لكى تسير مصر بقوة الدفع الذاتى التى يعلم الله إلى أين ستأخذنا. لدينا مجلس للشورى المفروض فيه أن يناقش القرارات والقوانين قبل صدورها لكى نتفادى أية أضرار تلحق بالناس من جراء تطبيق القوانين نتيجة للثغرات التى قد توجد، وتجنبا لعدم الدستورية وهو أمر وارد نتيجة لترسانة القوانين التى ترصع رفوف المشرعين عندنا. ولدينا مجلسا للشعب يناقش هو الآخر أية قوانين قبل إقرارها لنفس الأسباب. ولدينا منظمات المجتمع المدنى المفروض أنها صاحبة الحق فى أبداء آرائها فى القوانين التى تمس جموع المواطنين الذى تدافع تلك المنظمات عن حقوقهم المشروعة فى المواطنة والمشاركة باعتبارهم على رأس أصحاب المصلحة فى كل ماينظم شئون حياتهم. ولدينا المثقفون وأهل الفكر والكتاب والصحفيين بفئاتهم المختلفة من أصحاب الرؤي الذين يمكن أن يسهموا بآرائهم فى التغييرات الجذرية التى تنوى الدولة أن تقوم بها. لدينا كل هؤلاء، ولكنهم طالعوا مثل أى عابر سبيل أنباء ماحدث فى الصحف بعد أن أصبح واقعا وقانونا واجب النفاذ.
كلنا لم نكن نملك سوى أن نمصمص الشفاه باعتبار أن ماحدث وجبة فاسدة أخرى تضاف إلى رصيد الوجباب الفاسدة التى يعدها المطبخ السياسى لصانع القرار ويخفى فسادها بالاهتمام بطريقة التقديم وتزيين الأطباق التى تقدم فيها.
وحتى حينما حاول وزير االأسكان والتنمية الإدارية أن يجملا الصورة بنفى أن قرارات تقسيم المحافظات لم تكن فجائية وإنما استغرقت الدراسة سنوات (طبقا لتصريحات وزير الإسكان فى مجلس الشعب)أو بناء على دراسة قامت بها إحدى الشركات العالمية المتخصصة لمدة تسعة شهور كاملة طبقا لتصريحات وزير الشئون الإدارية فإن ذلك يحسب على الحكومة وليس لها طالما توافر الوقت الكافى لمناقشة إعادة تقسيم حدود المحافظات مع كل أصحاب المصلحة كما تقدم. ولعل الأخطاء التى ظهرت بعد ذلك تقنع الحكومة بأن مادفع نظير الدراسة يساوى النتائج التى تحققت. أضطرت الدولة أن تتراجع بالتدريج عن الحدود التى صدر بها قرارات جمهورية لمواجهة بعض الأخطاء الفادحة أو نتيجة لضغوط شعبية اعترضت على التقسيم فى اليوم التالى مباشرة من صدور القرارات الجمهورية. وأضطرت بعد عدة أيام فقط – تجنبا للطعن بعدم دستورية القرارات – بأن تصدر تعديلا آخر يبقى " موقع " – ولا أقول حيا أو منطقة بكاملها – المحكمة الدستورية العليا على كورنيش النيل تابعا لمحافظة القاهرة بدلا من حلوان كما كان مقررا. المحافظات الجديدة ليس لها مقار، ولا وحدات لخدمة الجماهير، ولم يعلن بعد عن الإجراءات التى ستتخذ " لتغيير هوية " الناس الذين يقعون فى زمامها من لوحات سيارات إلى البطاقات الشخصية وحتى التعامل مع وحدات الإدارة المحلية، ولا أظن أن أحدا سوف يحاول فى القريب العاجل أن يوضح تلك المسائل للناس لأنى على يقين من أن المسئولين الذين فوجئوا بقرارات التقسيم سوف يظلون فاقدى التوازن لفترة طويلة لحين صدور توجيهات وتعليمات عليا تحدد لهم المطلوب كما هو الحال فى كل قرارات سيادية تصدر. والتقسيمات الجديدة تحتاج إلى ميزانيات ضخمة، وإلى "إعادة جدولة" لموارد كل محافظة لكى تتمكن المحافظات الجديدة من أداء مهامها، وفى نفس الوقت تعيد المحافظات القديمة التى قطعت أوصالها حساباتها وترتيب أوراقها على ضوء الموارد المتاحة لها بعد التقسيم. وسوف تعلن حروب خفية وظاهرة من قبل أصحاب المصالح السياسية والإقتصادية للدفاع عن مصالحهم، وليس خافيا ماتردد من أن ترشيحات لمحافظين الجدد تعكس تلك الحرب الخفية حتى فى صفوف الحكومة نفسها. بل إن البعض ذهب إلى الجزم بأن التقسيمات الجديدة إنما روعى فيها مصالح فئة من رجال الأعمال على حساب ضرب مصالح البعض الذين يراد تحجيمهم فى مجالات البناء والتشييد وإقامة المدن الجديدة.
وأى محلل منصف لايستطيع أن يتجاهل العدد الكبير من المحافظين الجدد الذين لايعرف الناس عنهم شيئا ولم "يضبط أحدهم متلبسا" بعمل قومى كبير فى محافظته يشهد له بالكفاءة وبعد النظر والقدرة على القيادة والإنجاز. بعضهم لايملك سوى عضويته فى لجنة السياسات، وبعضهم أثبت فشلا فى إدارة المؤسسات التى كانوا على قمة السلطة فيها فكيف يكافئوا بتعيينهم محافظين المفروض أن لهم سلطات رئيس الدولة فى الأقاليم التى سيتولون إدارة شئونها ؟ الدول الديمقراطية فى الخارج تختار مبدئيا المرشحين لمناصب المحافظين وحكام الأقاليم ، ولكنها تطرح أسماءهم على نواب الشعب لكى يقولوا كلمتهم أولا معبرين عن القواعد الشعبية التى يمثلونها قبل أن تصدر القرارات اللازمة بتعيينهم. وتظل مكاتب نواب الشعب بالمجالس التشريعية مفتوحة فى تواصل دائم مع الناس لكى يبدو آراءهم خلال فترات محددة وبطريقة منظمة تسمح بأن يصوت الناس لمن يرون أنه سوف يدافع عن مصالحهم ويحقق طموحاتهم. والدول الديمقراطية تتعامل بشفافية فيما يختص بالمنهج الذى يطبق فى اختيار من يتولى وظيفة عامة حساسة مثل المحافظ : تبحث فى خلفيته العلمية ، وفى ذمته، وفى سمعته، وفى إنجازاته وخبراته العملية التى تتناسب مع مسئوليات لمنصب الذى سوف يتولاه وأولها مهاراته فى الإدارة وقيادة التغيير والحلول الابتكارية للمشاكل والعمل تحت ضغط. أما عندنا فهى " طبخه " سياسية تخضع لعوامل معظمها شخصى يعتمد على الإنتماء والقدرة على تسييس الأمور، والمكافأة بتولى المناصب وتوزيعها لمن يصبه الدور وليس للأكفأ. وسوف يظل الناس فى مصر يتساءلون : "من هؤلاء وعلى أى أساس تم اختيارهم؟" ، وبالطبع لن يجيبهم أحد على تساؤلهم فالقرارات السيادية فى بلادنا لاتناقش ، وقريبا سوف يتبع حركة المحافظين تغييرات وزارية سواء محدودة أو موسعة وبنفس طريقة الصدمة التى اعتدنا عليها فلم يعد المواطن يفرق بين زيد أو عمرو مادامت الأحوال تسير من سيئ إلى أسوأ، ومادام الحصول على رغيف الخبر سوف يظل هو المؤشر الوحيد الدقيق على نجاح أو فشل أى حكومة حالية أو قادمة فى توفير " العيش الحاف" لمواطنى مصر الصابرين.

No comments: