المعارك التى
خاضتها الدبلوماسية المصرية خلال تاريخها الطويل لاتقل ضراوة عن المعارك التى
خاضها جيش مصر العظيم فى الحروب المتعددة التى استهدفت أمن مصر واستقرارها منذ عام 48، وسوف تظل العسكرية المصرية درعا يحمى
مصر ويصد عنها عزوات التتار الجدد الذين يريدون كسرإرادتها وإحكام سيطرتهم عليها،
وسوف تظل الخارجية المصرية تمارس حروبا من نوع آخر أسلحتها فيه "فن
الممكن" وذخيرتها فيه الحجة والمنطق والتفاوض وحشد التأييد والضغط الدولى ..
وحين نتحدث عن الخارجية المصدرية لابد وأن تبرز أسماء رواد ارتبطت أسماؤهم بتاريخ
مصر الحديث مثل محمود فوزى وعصمت عبد المجيد ومحمود رياض من شيوخ الخارجية
وتلاميذهم اسماعيل فهمى وبطرس غالى ونبيل العربى وأسامة الباز وعمرو موسى .. مدارس متعاقبة لذوى
القبضات الحديدية التى تختفى خلف قفازات مخملية تحقق بها انتصارات متوالية على
المستوين الإقليمى والدولى..الحمائم فى الدبلوماسية لهم دور، وقد لايظهرون فى
الأزمات أو على موائد التفاوض ولكنهم يعملون فى المطبخ السياسى يراجعون القوانين
ويقومون بالبحوث ويقارنون ويحللون ويعدون أوراق العمل .. إذن الصقور يقودون
ويوجهون ويحددون البوصلة والحمائم ينفذون ويساعدون ويلعبون أدوارا خفية بالغة
الأهمية قد لاتظهر فى العلن.. نعم، ظلت الخارجية المصرية محتفظة بقيمها وأسلوب
عملها وتوجهها حتى اتسعت دائرة فساد الحكم لتشملها وتلعب فى هياكلها التنظيمية
وتفرض عليها عناصر ترى مكافأتها على ولائها للنظام وامتلأت المؤسسة بالمتقاعدين
وطالبى الشهرة ومحبى السفر وحاصدى الألقاب والمزايا، ووصل بعض هؤلاء بحكم الأقدمية
إلى مناصب السفراء وهنا مكمن الخطورة.
أكتب ذلك بمناسبة
القبض على ناشط سياسى مصرى بالسعودية والتهم التى وجهت إليه، والتى أدى تصاعدها
إلى أزمة أسيئ تعامل الخارجية معها إلى حد تخريب العلاقة بين مصر والسعودية لمدة
سوف تطول حتى بعد أن تعود العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها .. ولا أريد استباق الأحداث أو التعليق على
حكم لم يصدر بعد، ولكنى بالقطع استعمل حقى فى التفكير وفى إبداء رأيى فى الموقف
وفى الأداء الدبلوماسى المعيب للتعامل مع الحدث الذى تحول لغرابته وملابساته إلى
قضية رأى عام مصرى يرى أن يفتح ملف المصريين فى الخارج وبالذات – وأقول ذلك وكلى
ألم – فى الدول العربية حيث لايحظون بأى رعاية ويعاملون معاملة العبيد من قبل
كفلائهم ويخضعون لظلم مطلق يحميه قوانين تلك البلاد التى تعطى الكفيل سلطات مطلقة
فى أكل حقوق العاملين لديه وترحيلهم إلى بلادهم أو الزج بهم فى السجون لو أراد ..
يحدث ذلك فى ظل شكوى دائمة من جموع المصريين العاملين بالدول العربية – والسعودية
بالذات – من غياب الرعاية الواجبة من بعثاتنا الدبلوماسية وتقصيرها فى مساندة
أصحاب الحق والوقوف بجانبهم عند تعرضهم لمشكلة قانونية، وهو أمر ضد الأعراف والقوانين
الدولية وتأخذه الدول الأخرى المصدرة للعمالة مأخذ الجد فتقف إلى جوار مواطنيها تضمن
لهم كافة حقوقهم القانونية والإنسانية فيعاقب من تثبت عليه التهمة وتخلى ساحة
البرئ.
سارع سفير مصر فى
السعودية والذى كان على سفر وبعد أسبوع كامل من القبض على المتهم المصرى بالظهور
فى الفضائيات، ودون انتظار لتحقيق، لكى يقول بلغة شبه يؤكد أن المواطن قد ضبط يحاول
تهريب مواد مخدرة وأنه قد اعترف كتابة بذلك، ولعلها المرة الأولى فى التاريخ التى
ينضم سفيردولة إلى جهات الضبط فيؤكد التهم المنسوبة إلى أحد مواطنى دولته قبل أن
ينتهى التحقيق بالإدانة ويصبح الحكم باتا بعد استنفاذ درجات التقاضى .. وحتى حين
تدخلت القنصلية بعد أسبوع كامل من القبض على المواطن لم يكلف القنصل نفسه بالذهاب
لمقابلة المتهم بل أرسل مساعدة – طبقا لما جاء بوسائل الإعلام المختلفة فى أكثر من
رواية – لأن تلك المهمة على مايبدو لاترقى إلى مستوى مهام سيادتة، فماذا نسمى ذلك؟
أما ملابسات القبض
على المواطن فهى لاترقى إلى مستوى توجيه الإتهام أصلا: كم هائل من المضبوطات لو صح
عددها لاحتاج لأكثر من شنطة سفر ولدفع عنها وزن زائد لم تثبته سلطات مطار القاهرة
.. ومتهم ضمن فوج يقبض عليه وحده دون زوجته التى سافرت معه لأداء العمرة وطبيعى
أنهما يشتركان فى شنط السفر التى سافرا بها معا .. وإعلان تكرر على امتداد أيام
بأن المضبوطات كانت فى علب لبن أطفال – أى مجفف – وحين عرضت صور المضبوطات كانت
داخل علب حليب "جهينة" وليس علب لبن مجفف .. ومتهم يقبض عليه وتدعى
السلطات المسئولة أن سفارة بلده وقنصليتها قد أخطرت فور القبض عليه ومع ذلك
لايزوره أو يحضر التحقيق معه أى مسئول قبل تسرب خبر القبض عليه من زوجته وأخته بعد
أسبوع كامل من واقعة الضبط وتوجيه الإتهام .. وأخيرا مواطن يتم القبض عليه فى
منطقة الجوازات قبل استلامه لشنط سفره المفروض أن بها المضبوطات .. وأخيرا، لم
يصدر تصريح واحد من الخارجية المصرية يوضح ماحدث واكتفى الوزير بالظهور فى
الفضائيات لكى يؤكد أن المواطن "يلقى كل الرعاية وأن حالته الجسدية والنفسية
فى أحسن حال" وفاته على مايبدو أن يضيف بأنه يرفض الإفراج عنه .. طبيعى أن
تخرج المظاهرات تنادى بالعدل وتطالب بتدخل السلطات المصرية للإفراج عن المصرى
المعتقل، ولكن لاأحد يوافق على أن يتصاعد الغضب ويخرج عن السيطرة فيتحول إلى تخريب
يهدد العلاقات بين الدول .. وتلك قصة أخرى !
No comments:
Post a Comment