ثورة 25 يناير التى أشكر الله أن
عشتها وشاركت فيها مع أسرتى ولازلنا ندافع عن أهدافها ونفرح لانتصاراتها ونحزن على
انتكاساتها كانت بركانا ألقى بحمم ظلت تغلى لسنوات طوال فى بطن جبل الغضب الذى وحد
المصريين جميعا على هدف واحد نجحوا حين اتحدوا على تحقيقه فتخلصت مصر من عصابة
جثمت على أنفاسها ثلاثة عقود تسرق وتنهب وتظلم وتروع وتذل وتنفذ مخططا ممنهجا لكى
يظل المصريين جهلاء فقراء بؤساء لاأمل لهم فى الحياة سوى ملء البطون بما يجود به
السادة عليهم .. إرتقت لغة الحوار بين الفرقاء المختلفين فى العقائد والملل
والأيديولوجيات فى مبارزات بالأقلام وليس بالسنج وسمت الأنفس وترفعت عن الفوارق
الطبقية وعنجهية المراكز والجاه وتوحدت الرؤى وكأننا كنا فى حلم أركبنا آلة الزمن
وعاد بنا إلى عصر زعماء مصر العظام ومفكريها وقادة الرأى فيها حين اجتمعت الأمة
كلها خلف سعد ومن بعده النحاس تذود عن كرامتها وتشحذ هممها وتوحد قواها لتقف فى
وجه ظلم الحاكم وطغيان المستعمر.
كانت لغة الخطاب السياسى رفيعة
مترفعة تخلو من أى ألفاظ سوقية أو تعبيرات أو إيحاءات مسفة على الرغم من قوتها
وشراستها فى "تشريح" الخصوم السياسيين وفضح أخطائهم وخطاياهم، وكان أدب
الحوار إسما على مسمى يعكس وعيا وثقافة وعلما ولاينشر ثقافة الفحش والفجر التى
انتشرت فى الخطاب السياسى هذه الأيام .. لم يكن هناك سوى الراديو وصحف قليلة
مصادرا للأخبار ونافذة نطل منها على أعمال الرموز الثقافية من كتاب وشعراء وفنانين
ولم تكن أبدا منبرا للشتامين أصحاب قواميس البذاءة ومفردات السوقة والرعاع لأن من
كان يجاز لكى يكون مذيعا أو صحافيا كان يمر باختبارات عديدة فى الكتابة وسلامة
اللغة والثقافة العامة ويجلس أمام لجان من كبار المتخصصين واصحاب المدارس فى
الإلقاء أو الأدب قبل أن يسمح له بأن يقول "هنا القاهرة" أو يكتب كلمة
واحدة فى صحيفة يقرأها أيامها عشرات الألوف من الناس وتدخل بيوتهم .. كان هناك
حرمة للشارع والبيت ولم يكن فحش القول وفجر السلوك قد تفشى بين الناس كما تفشى تلك
الأيام، من يفعل الخطأ يفعله فى السر ويخفيه خوفا وخجلا من اللوم أو الحساب ولايجاهر
به متباهيا كما يحدث الآن، وكان هناك مصلحة عليا واحدة هى مصر، وقيمة رفيعة واحدة
هى الوطنية وعدو واحد هو الإستعمار سواء من حاكم يريد أن يظل حاكما مطلق النفوذ
إلى أبد الآبدين، أو محتل اغتصب الأرض والحقوق دفاعا عن أمنه ونهبا للخيرات على
حساب شعب لم يكن له ناقة ولا جمل فى الحروب التى دارت رحاها بين الدول الكبرى
تقسيما لكعكة بحجم الكرة الأرضية دون تفكير حتى فى ترك الفتات للدول الصغيرة.
ماالذى تغير الآن لكى تتغير لغة
الخطاب ويصبح الناس – كل الناس – يفضلون شتامين تلوث ألسنتهم ألفاظ وتعبيرات تعلق
بتلك الألسنة وتصبح جزءا من نسيجها فلا تعود تنطق بغيره .. وتحولت أجهزة الإعلام
ووسائل التواصل الإجتماعى التى تعددت وأصبحت فى متناول معظم الناس إلى
"بيوت" تحاكى مايمارسه أصحاب أقدم مهنة فى التاريخ، واصبح الخلاف – أقل
خلاف – مبررا لهجوم كاسح بأسلوب وضيع أو إشاعات حقيرة تشوه السمعة وتخدش الحياء ..
ماالذى تغير فى مصر والمصريين لكى يحدث لنا ذلك بعد أجمل ثورة وأنبلها فى التاريخ
المعاصر بل ربما فى التاريخ كله حتى الآن؟ ماالذى جعل المصريين أعداء لبعضهم البعض
بدلا من توحدهم أمام أعداء يتربصون بهم، وماالذى أدى لهذا الإنفلات الأخلاقى العفن
الذى أصبح يغرق كل شوارع مصر وبيوتها ويحول الناس فيها إلى مخلوقات عجيبة الشكل والسلوك لايمتون لأجدادهم بأى صلة؟ هل هو
تدنى التعليم الذى تم بفعل فاعل لكى يخرج جهلاء يحملون درجات علمية وتفصيل مناهجة
لكى تسهل على ابناء المسئولين ومن بعدهم من استفاد من هذا الفساد أن يجتازوا
الإمتحانات ويقبلوا على جهلهم وتأخرهم فى أحسن الكليات؟ أم أن الفقر والأمية التى
حافظ عليهما من حكم مصر لثلاثة عقود لكى يسهل له – وهو صاحب الذكاء المحدود
والثقافة الضحلة – أن يبقى حاكما حتى الموت ثم يرثها أبناءه من بعده؟ أم أنها خطة
لإفقار شعب مصر كله بلا استثناء ثقافيا واجتماعيا بعد أن أفقروه اقتصاديا فينشغل
بحروب الفصائل والقوى والأحزاب التى هى ليست أحزابا وإنما غرف اجتماعات يفرغ
المجتمعون فيها طاقاتهم المخزونة من الغل والحقد والكراهية لباقى الأحزاب
والفصائل، ويحلمون لبعض الوقت أنهم قادرون على تغيير الواقع على هواهم وأنهم قادمون
لحكم مصر على الرغم من أنهم لايملكون أى مشروع ثم ينصرفون انتظارا للإجتماع
التالى.
أصبح هناك كتائب لدى كل فصيل فى
مصر يطلقها على مواقع التواصل الإجتماعى تجرح وتجرس بسبب وبغير سبب الخصوم
السياسيين أو حتى من يختلف فى الرأى معهم، واصبح هناك محطات فضائية لاهم لها سوى
نشر الإشاعات والأكاذيب وفبركة الصور والأخبار خدمة لمن يمول تلك المحطات، واصبح
التطاول بالقول والإشارة والإجتراء على الحقيقة مؤهلات لمن يديرون تلك المحطات
وبعضها فيه مذيع واحد أو إثنين وبعضها لايوجد بها سوى صاحبها أو الواجهة لصاحبها
يفتح المحطة صباحا ويظل يهذى طوال النهار حتى يغلقها آخر الليل دون أن يكنسها من
القاذورات التى تساقطت أثناء وصلات "الردح" .. متى يفيق المصريون
ويقبلوا واقع أن مصر أصبح لها رئيس مدنى منتخب وأنه مهما كانت درجة الخلاف معه - وهذا
حق لمن يختلف - فهو يمثل مصر حتى يتم تغييره من خلال صندوق الإنتخاب وليس
المؤامرات وتخطيط الإنقلابات على الشرعية، وأن السماح بإهانته والتطاول عليه يمس
كرامة البلد الذى أتى به رئيسا؟ ومتى يسأل من يفعلون ذلك ويصرون عليه لو أن الرئيس
كان قد أتى من بين صفوفهم فهل كانوا يقبلون من باقى الأحزاب أو الفصائل أن يتعرض لما
يتعرض له الرئيس الحالى الذى لم أنتخبه شخصيا ولكنى أرفض تماما أن يكون هدفا يجتمع
عليه من يعلقون اعترافهم بصندوق الإنتخابات على نجاح مرشحهم.
No comments:
Post a Comment