Monday, July 29, 2013

حكاية إمرأة غيرت ثقافة أمة

 قد يجهل الكثيرون أن مشوار التحضر الأمريكى لم يبدأ سوى من ثمانية وستين عاما فقط وأن امرأة زنجية بسيطة تعمل خياطة تدعى "روزا باركس" هى التى أشعلت شرارة العصيان المدنى للزنوج فى أمريكا وبداية حركة الحقوق المدنية والمساواة وتوقف العنصرية البغيضة التى كانت سائدة فى المجتمع فى ذلك الوقت ليس على مستوى الثقافة فقط وإنما بقوانين تدعمها وتهدد من يخرج عليها بالسجن أو الغرامة .. أطلق عليها الكونجرس على تلك المرأة بعد ذلك ألقابا مثل " السيدة الأولى للحقوق المدنية" و " الأم الروحية للحرية" .. تبدأ القصة حين صعدت روزا الأتوبيس الساعة السادسة مساء يوم الخميس الأول من ديسمبر عام 1955 فى مدينة مونتجمرى بولاية ألاباما الأمريكية عائدة إلى منزلها وجلست على أحد المقاعد فى أول صف مخصص للزنوج وسط الأوتوبيس.
امتلأ الأتوبيس تدريجيا بالركاب وطبيعى أن يقف بعض الركاب البيض .. لم يعجب ذلك سائق الأتوبيس فتوجه إلى روزا وثلاثة آخرين من الزنوج كانوا يجلسون بجوارها طالبا منهم أن يتركوا مقاعدهم للركاب البيض .. انصاع الثلاثة الآخرون للأمر ولكن روزا رفضت بأدب وتمسكت بحقها فى الجلوس فى المقعد الذى كان خاليا وقت صعودها إلى الأتوبيس .. استدعى السائق الشرطة التى قبضت على روزا وكبلت يديها واقتادتها إلى مركز البوليس حيث ذهبت أمها مع محاميها وسددا الكفالة المطلوبة لإطلاق سراحها بعد قضائها يوم فى الحبس وحتى يحين موعد محاكمتها .. اتصل محاميها بقس شاب إسمه "مارتن لوثر كنج" يطلب منه السماح بعقد اجتماع بكنيسته الصغيرة لعدد من أصدقاء روزا يريدون أن يعبروا عن رفضهم لهذا التمييز العنصرى والظلم الواقع على الزنوج .. تردد القس فى البداية لجسامة الحدث فى ظل القوانين السارية حينذاك، ولكنه عاد ووافق بعد أن توسط عدد من أصدقائه لكى يسمح بفتح إبراشيته أمام أول ثورة سلمية جماعية للزنوج فى تاريخ أمريكا.
 قرر المجتمعون أن يقاطعوا ركوب الأتوبيس فى يوم معلوم وتناقلت الصحف المحلية أنباء تلك المقاطعة وانتخبوا القس الذى اصبح فيما بعد رمزا لحركة المقاومة ضد التمييز العنصرى رئيسا للحركة حتى تم اغتياله على يد متطرف متعصب أبيض .. حين قرأ المواطنين الزنوج الصحف وسمعوا مادار فى الإجتماع أعلنوا عن تضامنهم مع روزا، وبالفعل قاطعوا ركوب الأتوبيسات فى ذلك اليوم لاسيما وأن سائقى التاكسى من الزنوج أعلنوا أنهم سوف يقومون بنقل ذويهم من وإلى العمل فى ذلك اليوم بأجرة موحدة مساوية لأجرة تذكرة الأتوبيس وهى عشرة سنتات، ووزعت المنشورات على كل البيوت وفى صناديق البريد تؤكد الإضراب.
مثلت روزا أمام القاضى بينما تجمع حوالى خمسمائة من اصدقائها بطرقات المحكمة انتظارا للحكم، ووجدها القاضى مذنبة بمخالفتها لقانون التفرقة فى المعاملة والفصل بين الزنوج وغيرهم واصدر حكمه عليها بالغرامة 14 دولارا بالإضافة إلى يوم الحبس الذى قضته فى قسم البوليس، ولكن الحادث أشعل فتيل ثورة الزنوج للمطالبة بحقهم فى الحياة والمساواة فى مجتمع ظالم وتحملوا التضحيات الجسام لأكثر من ربع قرن بعد أن حكمت المحكمة العليا بعدم دستورية القانون فى يونيه 1956 أى بعد أقل من عام من القبض على روزا باركس، وأصبحت أمريكا يضرب بها المثل فى الديموقراطية والمساواة دون تفرقة أو تعصب أو محاباة بسبب اللون أو الجنس أو الديانة وتوجت حركة التحرر تلك بتولى باراك أوباما رئاسة أمريكا كأول رئيس اسود وهو بذلك مدين لروزا بمنصبه كأول زعيمة فعلية بدأت رحلة الألف ميل التى أكملها مارتن لوثر كنج وأتباعه من بعده حتى تغير وجه المجتمع األأمريكى كما قلنا.

الدروس التى نتعلمها من ذلك كثيرة .. أولها أن التغيير المجتمعى – حتى لو كان ثورة على ثوابت قديمة وعادات متوارثة – ممكن ولكنه يحتاج لقضية تهم قطاعا كبيرا من الناس يجمعون عليها ويتعاطفون معها ويقفوا وراءها ويسمعون صوتهم لباقى قطاعات المجتمع لكسب التأييد وتوسيع دائرة الدعوة لقضيتهم وشرح دوافعهم والتأكيد على العائد الإيجابى للمجتمع ككل إذا ناصر تلك القضية وأن المطالبة بالحقوق لاينتقص من حقوق أى طرف مجتمعى آخر .. كل ذلك يحتاج لقيادة واعية تخاطب وعى الناس وعقولهم وقلوبهم تناقش وتشرح بإصرار حتى لاتموت القضية، وإعلام واع لايُهوِّل ولايُهوِّن، وأن يكون التغبير عن المطالبة بالحق سلميا لايضر بمصالح باقى قطاعات المجتمع ولايهدد أمنهم ولا سلامتهم ولا يعتدى على المنشئات العامة ومرافق الدولة التى يشترك كل الناس فى ملكيتها واستخدامها .. فهل نتعلم جميعا الدرس؟

No comments: