دراسات عديدة قرأتها تتناول بالتحليل ظاهرة الدكتاتورية وكيف يتفنن الحاكم
الديكتاتور فى تشكيل فرق العمل التى سوف يعتمد عليها أركان حكمه واهتمامات كل فئة
لكى يظل مسيطرا عليها، والإستراتيجيات التى سوف يتبعها فى إخضاع شعبه وترويضه وسلب
إرادة التغيير لديه حتى يظل مسيطرا على مقاليد الحكم مخلدا فى منصبه .. الدكتاتور يعى جيدا أن هناك علاقة بين الجهل وملء البطن، وبين
العلم وملء العقول، وأن إدارة التخلف أسهل بكثير جدا من إدارة التقدم والتطوير..
تنحصر الإدارة فى الأولى فى توفير احتياجات نشترك فيها مع باقى مخلوقات الله
وأهمها توفير الطعام ، أما الثانية فتحتاج لمؤسسات ورؤى تستشرف المستقبل ومواردها
العلم بكافة فروعه والمشاركة فى تقرير المصير.
نجح عميد الدكتاتورية فى العالم العربى حسنى مبارك وأسرته وخدام حكمه وعهده
خلال 30 عاما فى أن يجرف موارد الوطن كله يملأ بخيراته خزائنه داخل البلاد وخارجها
ومعها التعليم والعقل والفكر والثقافة حتى صار المصريون كائنات تسير بالفطرة
تحركها العواطف تنأى بنفسها عن المشاركة وتنعم بالكسل والسلبية وتغيب فى دهاليز
الأحلام يخدرها التمنى بعد أن فوضوا أمرهم إلى الله يأتيهم كمنحة إلهية لاتكلفهم
أى مجهود .. ولعل غالبيتنا لايزالون يفضلون التفسير القدرى لثورة 25 يناير التى
أطاحت بمبارك فى ثمانية عشر يوما ويتوقفون عند ذلك دون أن يرهقوا تفكيرهم بما
ينبغى عمله لكى تكتمل الثورة وتتحقق أهدافها باعتبار أن الثورة كانت الخطوة الأولى
فقط للتغيير.
وحتى لايكون الكلام مرسلا فإنى أسجل كل حين من واقع التعامل اليومى مايؤيد
ذلك ويدعمه، ولذلك تجيئ الأمثلة التى استشهد بها صادمة بل وأحيانا تستعصى على
التصديق .. أمثلة كاشفة لمستوى جودة الإنسان المصرى وحياته وتفكيره وسلوكه وقدر
الإستكانة والتسليم بالأمر الواقع الذى وصل إليه .. الإستكانة والضعف انقلب بعد
الثورة إلى اندفاع غير منظم وفوضى ممنهجة وعنف لايعرف حدودا وأصبحت حياتنا كلها
عشوائية فى أهدافها وعشوائية فى وسائل طلب وتحقيق تلك الأهداف وانقسم المصريون إلى
فصائل وشيع وتحالفات يتربصون ويترقبون ولايتفقون على شيئ ويختلفون فى كل شيئ.. وحين
نرى ماصار إليه حال النخبة من المتعلمين والمثقفين يصبح قياس حال من دون ذلك من
الطبقات والفئات أمرا سهلا لايحتاج إلى كثير من الجهد.
أحد طلابى سجل لنيل رسالة الدكتوراه بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية
واجتاز كل متطلبات الحصول على الدرجة العلمية التى استحقها بعد عمل متواصل لعدة
سنين .. تأخر منحه الشهادة الدالة على ذلك لتقديمها إلى جهة عمله الحالى بإحدى
الوزارات، ولما سأل عن السبب أخبره موظف شئون الطلاب بالكلية أنه لم يسدد تأمين
مكتبة الجامعة فسارع بتسديده ليكتشف أن المطلوب خمسة جنيهات فقط لاغير.. اعتقد أن
الموضوع انتهى عند هذا الحد ولكن هيهات لبيروقراطية التخلف أن تقنع بذلك .. طلب
منه نفس الموظف أن يسدد تأمين مكتبة الكلية وقدره جنيهان ونصف، أى أن سبعة جنيهات
ونصف فقط كانت سببا فى تأخر حصول طالب لشهادة تثبت حصوله على درجة علمية رفيعة مثل
الدكتوراه من جامعة القاهرة ومن كلية من كليات القمة بها يتخرج فيها من يطمحون
للعمل بالسلك الدبلوماسى أو تقلد المناصب السياسية بالدولة .. الأدهى والأمر أن
أحدا من الموظفين لم يكلف خاطره بالإتصال بالطالب الذى أصبح دكتورا لكى يطلب منه
الحضور لاستلام شهادته وسداد الرسوم القليلة المطلوبة أو حتى يبادر بدفعها عنه –
وهى تافهة القيمة - حتى ولو لم يطالبه بها.
فى حالة كهذه – ولدى غيرها كثير – هناك سؤال لسؤال يفرض نفسه: لماذا لم
يبادر أحد باقتراح إصدار القانون أو القرار اللازم لإسقاط تحصيل تلك المبالغ التافهة
التى يتكلف تحصيلها بالقطع أضعاف قيمتها، أو تحصيل مبالغ واقعية يمكن أن تسهم فى
تحسين حال الخدمات التى تقدم لطلاب الجامعات ومنها المكتبات؟ هو العجز واللأمبالاة
وفقدان الإرادة للتغيير والكسل وتآكل الرغبة فى العمل وانتظار أن تمطر السماء ذهبا
وفضة من جهات مانحة ومستثمرين سوف يشفقون علينا فيساعدوننا إكراما لعيون مصر
وتاريخها التليد.
No comments:
Post a Comment