الإنفلات الدينى فى مصر..!
كلما صادف سوء حظى
أن أشهد حوارا لشيوخ الفضائيات كلما ازددت يقينا بأن الإسلام الذى انتشر بالقدوة
والبساطة والوسطية ونبل التعامل يتعرض لمؤامرة شرسة من الجهال وأنصاف المتعلمين
ومدعى المشيخة محترفى الفضائيات لتشويه صورته واستعداء الناس عليه وافتعال الأزمات
التى يذبحون فيها كل قيم ومثل خاتم الأديان الذى ملأ الدنيا على مر الزمان منذ
أكثر من الف وأربعمائة عام نورا وعلما ورحمة وتسامحا ومودة ورحمة .. كما يزداد
يقينى بأن الأزهر الذى كان معملا لتفريخ قادة الفكر والرأى والثورات على مر تاريخه
يتضاءل دوره ويتقزم لكى يصبح مجرد متفرج على سيرك القنوات الدينية وبرامج الفتاوى
وتفسير الأحلام وممتهنى الرقى الشرعية والنصب باسم الدين.
معظم الفضائيات
ذات التوجه العلمانى تستضيف أناسا يطلقون على أنفسهم لقب الشيخ يبدون رأيهم فى
قضايا خلافية شائكة أو مواقف سياسية متطرفة ويدفعون لهم نظير سكوتهم عما يقال
أمامهم إما جهلا أو إيثارا للمصالح الخاصة، ويستضيفون معهم ضيوفا آخرين يعطونهم
فرصا أكبر لكى يصولوا ويجولوا بآرائهم وانتقاداتهم وتخريجاتهم بينما يصمت مدعى
المشيخة أو يقاطعون فى غوغائية أو يتكلمون بعد صمت طويل فى موضوعات أخرى لاصلة لها
بالموضوع المثار ويرددون كالببغاوات كليشيهات محفوظة.. وبهذا يظهر أمام الناس مدى
الفارق بين الضيوف وبين شيخ يهذى فى عصبية أو يحاول التدليل على رأيه فى صراخ
هستيري يظهر جهله ولايقنع أحدا .. صورة شبيهة بما كنا نضحك منه عن جهل من صورة
المأذون فى الأفلام القديمة أو الشيخ فى الحارة الذى يلجأ إليه الناس لحل مشاكلهم
فيجيب بصورة كاريكاتورية ولغة تثير الضحك والسخرية حتى ترسخت فى أذهاننا تلك
الصورة وأصبح من تنطبق عليه لايستحق الإحترام.
هناك "انفلات
دينى" يصاحب الإنفلات الأمنى الذى نعانيه الآن والذى يهدد مستقبل مصر لنصف قرن
قادم على الأقل ويزلزل أركان الحكم وقاعدة البناء والتنمية، والخطورة فى ذلك أن
المصريين متدينون بطبعهم بنسب أمية تصل إلى 67% بين الرجال وأكثر من ذلك بين
النساء فى صعيد وقرى مصر وبالتالى فإن المصدر الرئيسى لمعلوماتهم عن الصواب والخطأ
يستمدونه من أقواه مشايخ الفضائيات ويتأثرون بما يسمعون ويشكلون سلوكهم وعاداتهم
وعلاقاتهم تبعا لذلك .. مشايخ الفضائيات كما نقول فى الإقتصاد عملة رديئة تطرد
العملة الجيدة من التداول حيث يؤثر المشايخ الحقيقيون من خريجى الأزهر الإنطواء
والإنزواء مع أن الله قد حباهم علما واسعا وتفقها فى الدين ويتابعون مايجرى على
أرض الواقع ويتعايشون معه ويتفاعلون مع التغيير الحادث فى حياة الناس، وبعضهم هاجر
لدول عربية تستفيد من علمهم وخبرتهم ويتتلمذ على أيديهم دعاة عصريون مثقفون يشرفون
بلادهم.
الإعلام بطبيعة
تكوينه يميل إلى غير المألوف، ومن ثم يسعى للإثارة من خلال استضافة شيوخ – كبار فى
السن وليس فى العلم – يفتون فى كل شيئ ويبحثون فى الكتب الصفراء عن كل ماهو شاذ
ومثير للجدل ولكنه لايفيد الناس فى أمور حياتهم ومايستجد عليها من أمور، ويركزون
على العلاقات الحميمية ويتاجرون بالغرائز ويثيرون النعرات الطائفية ويتناولون
"قشور العبادات" ويأصلون للمظهر دون الجوهر ويروجون لأحاديث ضعيفة أو
غير صحيحة ويحرفون شرح آيات الله بما يخرج بها عن السياق .. أبواق تزعق وتصرخ
وتنادى على بضاعة بطريقة الباعة الجائلين فى سوق الثلاثاء تعلو أصواتهم على بعضهم
البعض لاجتذاب الزبائن، وبعضهم يتكسب ويتاجر بالقرآن فيدعى أنه يعالج به كل
الأمراض وينتهز معاناة بسطاء الناس – وأحيانا المتعلمون والمثقفون للأسف الشديد –
ويوهمونهم بتأثير السحر عليهم وأنهم قادرون على ترويض الشياطين والجن ويبتزونهم
ويستحلون أموالهم .. الإعلام المغرض – وليس الشريف الملتزم – يجد فى ذلك فرصة
ذهبية لتشويه صورة الإسلام وخلق صورة ذهنية سلبيه له على أنه دين الخرافة والجهل
والغيبيات والسلبية والتواكل وهو من كل ذلك براء.
الأزهر
هو الملجأ والحصن .. هو "بيت الأسرة المصرية" الذى يجمع شملها ويدافع عن
روح ثقافتها ونبع إيمانها وهو مطالب بتبنى تشريع يساند جهوده فى الحفاظ على الدعوة
فى إطارها الصحيح وروح وسلوك السماحة والبساطة وقبول الآخر فى الإسلام ,, تشريع
يضمن له من خلال وزارة الأوقاف – التى أرى أن تكون تابعة له مع دار الإفتاء – أن
يجيز الدعاة وأئمة المساجد ومن له حق الفتوى وعلى التوازى إعادة تأهيل من يعتلون
المنابر اليوم ,, وبذلك يعود لأداء دوره الذى أكسبه على مر العصور قيمته وقامته.
No comments:
Post a Comment