كثيرا ماأتوقف أمام ظاهرة الفردية فى التعامل اليومى بين الناس فى مصر ، وأتساءل عن الجذور فى تلك الظاهرة وفى السبب الذى يجعل أى عمل جماعى منظما شبه مستحيل سواء أكان هذا العمل رسميا يتعلق بنوع العمل الذى نؤديه أو غير رسمى يتعلق بحياتنا وعلاقاتنا الإجتماعية وتعاملاتنا اليومية .. إكتشفت اكتشافا مذهلا أيقنت أنه السر وراء سلوكنا الأنانى المفرط فى الفردية .. هذا هو ماأسميه " بثقافة الساندويتش " .. مامن مصرى لايذكر وهو صغير شنطة المدرسة ومحتوياتها ومن بينها ساندويتش تعده الأمهات لكى يتناوله الأبناء خلال أوقات الراحة بين الحصص الدراسية .. كان الساندويتش على مايبدو هو أهم محتويات الشنطة .. أهم بكثير من الكتب والكراسات والأدوات الدراسية ، ولذا فقد كانت النصائح التى نتلقاها قبل الذهاب إلى المدرسة فى الصباح تتركز على الساندويتش وكيفية الحفاظ عليه والدفاع عنه ضد أى معتد يستهدفه بسوء ، وضرورة تناوله دون أن يشاركنا فيه أحد .. ويكون أول مايسأل عنه الطالب لدى عودته من المدرسة هو الساندويتش وليس مستوى أدائه أو الدرجات التى حصل عليها فى الفصل . ترسخ فى أذهاننا إذن نوع من الأنانية فى التعامل مع الأشياء التى يمكن أن تكون وسائل للتواصل الإجتماعى والمجاملات والرغبة فى التعارف على الآخرين الذين ينظر إليهم طبقا لثقافة الساندويتش بأنهم غزاه كل همهم التآمر على صاحب الساندويتش والتخطيط للإستحواز عليه . ثقافة الساندويتش هذه تجعل كل واحد فينا جزيرة منعزلة يفكر وحده ويخطط وحده وينفذ وحده ، ويبدأ بالشك فى الناس إلى أن يثبت العكس ، ويفضل دائما أن يتحمل مسئولية قراراته وحده دون انتظار لمشاركة من أحد . وفوق هذا وذاك الإنعزالية واللامبالاة بشئون الغير حتى لو كانوا مواطنين تجمعنا بهم مصالح مشتركة سواء فى مكان العمل أو فى العمل الأهلى التطوعى أو فى مواجهة المشكلات التى يعانيها الوطن الواحد الذى نسكنه . ولابد أن ينعكس هذا بدوره على استحالة أن نجمع على رأى فى المسائل التى تهمنا على المستوى الشخصى والقومى والإقليمى والدولى وجميعها يحكمها مصالح مشتركة بين الأفراد والدول لايمكن أن تتخذ القرارات بشأنها دون تعبئة لكل أصحاب المصلحة وضمان لموافقتهم وتأييدهم حتى تكتسب القرارات شرعية تسمح بتطبيقها .
أحاول فى طريقة إدارتى للفصول الدراسية التى أقوم بالتدريس فيها أن أواجه تلك الظاهرة السلبية المدمرة التى تجهض كل عمل جماعى بأن أقترح على طلابى فى الدراسات العليا – وجمعيهم يحتلون ماصب تنفيذية - فأدير الفصل كما لو كان مؤسسة أقوم برئاستها والطلاب هم المديرون الذين يتولون إدارتها بتفويض منى . وما أن أقترح عليهم أن يتطوع عدد منهم لكى يشكلوا مجموعات عمل من زملائهم يخارونهم بأنفسهم لكى يعملوا معا على الحالات العملية التى أكلفهم بها كجزء من دراستهم حتى يرتبكوا ويحتاروا ويسرون إلى بأن الأفضل أن أقوم أنا " بتعيين " قادة المجموعات وأعضاء كل مجموعة . وحين أطلب من أحدهم أن يتولى دور ظابط الإتصال بينى وبين باقى الطلاب فى حالة ماإذا أردت إبلاغهم بشيئ يتعلق بدراستهم أو أقترح عليهم قراءة بعض المراجع أو زيارة مواقع تساعدهم فى بحوثهم مستخدما فى ذلك الإتصال الإلكترونى فلا يتطوع أحد حتى ألح فى الطلب وأصر عليه كجزء من التطبيقات العملية لعلم الإدارة الذى أدرسه لهم . نفس المواقف تتكرر حين أطلب من رؤساء المجموعات منهم الإتفاق على موعد بدء المحاضرات بشرط إلتزامهم بالموعد الذى يتفقون عليه وأن يتفقوا مع زملائهم على التواريخ الملائمة لكى أقوم باختبارهم بدلا من أن أفرضها عليهم محاولا أن أكون ديموقراطيا من ناحية ، وأن يتعودوا التشاور واحترام إرادة الآخرين من جهة أخرى فأجد أن معظمهم عند أول تجربة يفشلون فيها فى الحصول على إجماع يرضى عنه الجميع يطالبوننى بأن أفرض التواريخ التى تناسبنى أنا وسوف يلتزمون بها.. المعنى هنا أن طلابى من طبقة المتعلمين والتنفيذين يفضلون أن " يفرض " عليهم القرار من أن يشاركوا في صنعه .. وهم بهذا يساهمون دون أن يدروا فى خلق ديكتاتورية القرار الملزم ويلغون بالتدريج آراءهم الشخصية حتى فى الأمور التى تتصل مباشرة بأمور حياتهم وعملهم ومستقبلهم العلمى ولايجدون غضاضة فى ذلك .. وحتى حينما أقسم درجات البرنامج وأخصص جزءا منها للحضور والمشاركة فى المناقشات التى أديرها حول النظريات العلمية التى يدرسونها فإن بعض الطلاب يجدون صعوبة بالغة فى الإشتراك فى النقاش ، وبعضهم يفعل ذلك على استحياء لكى يزيد نصيبه من الدرجات .. الغالبية من الطلاب تعتقد أنها ينبغى أن تحصل على الدرجات النهائية المخصصة للحضور والمشاركة لمجرد حضورهم وعدم تغيبهم عن أى محاضرة .. ظاهرة تحتاج إلى مزيد من الدراسة .
التحدى الآخر الذى أواجهه حين أريد أن أشجع طلابى على التفكير الغير نمطى والتعبير بحرية عن آرائهم وتبريرها علميا فأواجه بمقاومة عنيفة ومحاولات مستميتة لكى أقصر أسئلتى فى الإمتحانات والاختبارات التى أعقدها على المقرر دون غيره وعلى الأسئلة النمطية التى يجدون إجابتها فى الكتب المقررة عليهم . يخافون من الخطأ ، ويتجنبون المغامرة ، ويلتزمون بالنص .. معظمهم يشكون من كثرة المعلومات التى تتوافر لهم وهى نعمة كنا محرومين منها قبل ثورة المعرفة التى نعيشها الآن ويسألوننى كيف يستذكرون دروسهم .. يريدون حبوبا للمعرفة يبتعونها دون جهد ودون تفكير .. وهم فى هذا معذورون لأنهم فى نهاية الأمر نتاج نظام تعليمى فاسد تناولناه بالشرح والتحليل فى سلسلة مقالات سابقة . طبعا هناك طلاب " يغامرون " بالتعبير عن آرائهم والدفاع عنها ويؤيدون ذلك بأمثلة واقعية من الحياه أو من بيئة العمل كما أطلب منهم ، ولكن الغالبية منهم نتاج ثقافة مجتمعية لاتشجع على التفكير والمشاركة والبحث .. لم يحدث أن طلب أحد منهم تحليل ظاهرة ولو بسيطة أو جمع معلومات عن موضوع أو المشاركة فى التفكير فى حل مشكلة ما تتعلق بدراستهم ويمكن تطبيقها علىالواقع .. ولم يساعدهم أحد فى محاولة تطبيق ماتعلموه على حياتهم الشخصية أولا ثم على حياتهم العملية بعد ذلك .. القراءة الحرة بالنسبة لهم عبء ومشقة وتكليف يتمنون تجنبه واستبداله بملخصات يرجعون إليها سريعا بإجابات تلغرافية يحفظونها ويسترجعونها عند السؤال . . كنا نكلف ونحن فى المرحلة الثانوية أن نكتب رأينا فى موضوع ما يحدده أستاذ اللغة العربية فى حصص "التعبير" وعلى الرغم من أن الغرض الأساسى كان قياس القدرة على استخدام اللغة فى التعبير إلا أننا كنا نقوم بشيئ من البحث يتناسب مع تلك المرحلة من العمر والدراسة والإستقرارعلى بعض الأفكار التى نبنى عليها الموضوع .. وأذكر أيضا أن أساتذة المواد العلمية كانوا يسمحون لنا بإجراء بعض التجارب العلمية البسيطة فى المعامل التى كانت جزءا من العملية التعليمية فى ذلك الزمان .. وحين التحقنا بالجامعة اشتركنا فى العديد من الأنشطة وفى تحرير مجلات الحائط ومجلة الجامعة .. نفس ماكنا نفعله فى المرحلة الثانوية بشيئ من التوسع وكثير من الفهم وحرية الإختيار. ولاشك أن كل ذلك مما حرم منه الأجيال اللاحقة لنا كانت تمثل بذور الرغبة فى البحث والنهم إلى المعرفة التى استكملنا بها مسيرتنا فى الحياة .
أما أصعب التحديات التى أواجهها أحيانا والتى ورثتها الأجيال الثلاثة السابقة نتيجة لأفظع الجرائم التى ارتكبت فى حق الوطن ولم يحاكم أحد بسببها حتى الآن رغم أن الفاعل ليس مجهولا وأعنى بها إفساد وفساد التعليم .. اعتاد الطلاب أن يحصلوا على 100% وأحيانا أكثر من الدرجات ، ولذلك حين يحصل أحد طلابى فى الدراسات العليا على أقل من "ممتاز" فإنه يأتى إلى شاكيا أنه " أجاب بكل مافى الكتاب " ولم يحصل على مايستحق ، والمفزع أن لايكون الطالب قد أجاب حتى بما فى الكتاب المقرر– وهو بالنسبة إلى الحد الأدنى من المعرفة – فيحصل على درجة متدنية تتوافق مع إجاباته فيأتى إلى طالبا أن أشرح له أوجه التقصير لديه دون أن يكلف خاطره بأن يقارن ورقة إجابته بطالب أو طالبة أخرى حصلت على تقدير أعلى ، وهو ماأنصح به دائما حتى " يتعلم " الطلاب أن يجهدوا أنفسهم فى معرفة الحقيقة من جهة وتصيبهم الغيرة من الأكثر منهم اجتهادا من جهة أخرى وتأصيلا لقيم العدالة حين يكتشف الطالب بنفسه تطبيق المعايير دون محاباة لأحد ويقتنع بأنه لم يصل بعد إلى المستوى الذى يؤهله لكى يحصل على تقدير أعلى .. أكبر جريمة نعانى منها الآن أن أصبحت العملية التعليمية "حشوا" للعقول بالمعلومات دون أن تتحول إلى " تعلم " من خلال تطبيق العلم على الواقع والتعلم من خلال التجربة والخطأ .
أقدم تجربتى الشخصية فى إدارة الفصل الدراسى لزملائى من الأساتذة وأطرحه للمناقشة كبديل للطرق التقليدية التى يتبعها معظمنا والتى تؤصل مااعتاد عليه طلابنا فى مراحل التعليم ماقبل الجامعى لكى نغير معا نمط استقبال الطلاب للمعلومات التى نعطيها لهم ، وكيف يستفيدون منها ويهتدون إلى الوسائل التى تتيح لهم تطبيقها عمليا . فى اليابان يقوم النظام التعليمى بأكمله على نظام الأسر العلمية التى ينتمى إليها الطالب فى مراحل التعليم المختلفة ، يستذكرون معا ويجلسون فى مجموعات يختارون لكل منها إسما وتوجه الأسئلة للمجموعات فيتشاور أعضاؤها عمن يملك أحسن إجابة تضمن للمجموعة كلها درجة عالية .. والغريب أنى وجدت ذلك مطبقا فى عدد من المدارس الإعدادية النموذجية – نعم الإعدادية - فى السعودية التى قمت بزيارتها منذ عدة سنوات مع بعض الأصدقاء هناك . وأدهشنى أن المدرسين فى تلك المدارس يستخدمون الوسائل السمعية والبصرية الحديثة فى التدريس والتى تخلو منها أكثر من 95 % من القاعات فى جامعاتنا العريقة عمرا والمتأخرة محتوى . حققت السعودية ودول الخليج تقدما مذهلا فى نظامها التعليمى كله بما فى ذلك التعليم العالى ، وفعلت فى أقل من ربع قرن مالم نفعله نحن فى قرن من الزمان هو عمر أقدم جامعاتنا بفضل إستمرار التخريب دون رادع للنظام التعليمى عندنا .
No comments:
Post a Comment