باستثناء طبقة مستثمرى الأموال ، وأصحاب مشروعات غسيل الأموال ، ومن حصلوا على منح من وزراء تصرفوا فى أرض مصر كما لو كانت عزبة ورثوها عن آبائهم ، فمن الصعب أن تجد مصريا لايشكو من ضيق مساحة المنزل الذى يسكنه أو يملكه ولايكفى باحتياجاته فى توفير الراحة له ولأسرته . وطبيعى أن يوازن الناس بين إمكاناتهم وتحقيق الحد الأدنى من احتياجاتهم بما فيها السكن فى ظل تدنى مستوى المعيشة الذى نعيشه من أمد بعيد ، والذى ازداد سوءا بالظروف الاقتصادية الطاحنة التى يعاني منها العالم حاليا . ووجدتنى أنقب كالعادة فى الفلكلور المصرى أبحث عن جذور لسلوك إدارتنا لمنازلنا والفراغات المتاحة بها لعلى أجد طريقا أهتدى به إلى أن تصبح بيتوتنا أوسع وأنظف وأكثر نظاما. خطر لى أن أسأل طلابى يوما عما تحويه بعض الأدراج المغلقة – دواليب فى بعض المنازل – والتى لم يفتحوها منذ سنوات ولايعلمون حتى مابها ، وأن أشجعهم على فتحها ورصد عينة مما تحتويه .. ترددوا فى البداية ثم استهوتهم الفكرة بعد أن سردت عليهم عينة مما وجدت أنا نفسى فى أحد الأدراج بمنزلى ، وشجعتهم على التعليق الساخر ، وشاركتهم الضحك على نفسى وعلى " باب النجار المخلع " الذى نعجز فيه أحيانا عن أن نغير سلوك من حولنا حتى لو كانوا من أفراد الأسرة الذين يعيشون معنا تحت سقف واحد .. كنت أريد أن اضرب عصفورين بحجر واحد .. أن أجد مدخلا أرد به على شكاواهم الدائمة من أسلوب رؤسائهم فى إدارة العمل ، وأن أتطرق إلى أن حسن الإد\ارة لايقتصر على الأعمال التى يؤدونها والشركات التى يعملون بها فقط ، وإنما يمكن أن يتطرق أيضا إلى أسلوب إدارتهم لحياتهم فى المنزل والشارع .
بدأت مع طلابى تجربة بسيطة ربطتها بحافز لتحميس من يتطوع منهم على خوض التجربة .. طلبت منهم أن يفرغوا محتويات أى درج للمهملات يصادفهم ويعدوا كشفا بما يجدونه فيه وسوف أتيح لهم الفرصة لكى يقرأوا كشوفهم أمام بعضهم البعض مع خطة بسيطة لكيفية التخلص من تلك المهملات بطريقة إيجابية وبشكل يستفيد منه الآخرون . إستجاب البعض وخجل البعض الآخر من أن يشارك فأمهلتهم إلى حين وأنا على يقين بأنهم سوف لايجدون حرجا من المشاركة بعد أن يسمعوا تجارب الآخرين ويوقنوا بأنى كنت جادا فى منحهم درجات إضافية على هذا التكليف الذى اعتبرته جزءا عمليا من دراستهم .. وقد صدق حدسى فيما بعد وتبارى الطلاب فى مراسلتى بالبريد الإلكترونى تارة وباعداد الكشوف التى يقرأونها على زملائهم تارة أخرى ، وأصبح قليلا من جلد الذات مع التعليقات خفيفة الدم حافزا لمزيد من سريان روح التحدى بينهم .. قائمة الأشياء الغريبة التى ازدحمت بها أدراج الطلاب واحتفظوا بها أو احتفظت بها أسرهم فى أدراج أو دواليب تحتل حيزا لابأس به فى منازلهم طويلة وتثير هستيريا من الضحك لأنها ببساطة نفايات قد لاتكون غير ضارة ولكنها بالقطع عديمة الفائدة فى معظمها إن لم يكن كلها .. لمبات كهرباء محروقة ، وقطع اسلاك ، ومسامير صدئة ، وأجندات تعود لعشرات السنين ، ولعب أطفال وشهادات أعمال سنة منذ مرحلة التعليم الأساسى ، وكارنيهات نوادى قديمة ، وتوك شعر مكسورة ، وزجاجات دواء فارغة ، وقصاصات ورق عليها أرقام تليفونات بلا أسماء ، وأقراص كمبيوتر تالفة ، وقطع غيار سيارات قديمة ، وإكسسوارات توارثتها الأجيال من الجدود ولم تعد تتناسب مع روح العصر. قصدت أن يواجه من استجابوا لندائى باقى زملائهم فيما يشبه الإعتراف بالذنب ولكن " بخفة دم " وفى جو أسرى دافئ لكى يتأكد إلتزامهم بالتخلص من النفايات التى وجدوها والحرص والمداومة على حسن استغلال المساحات التى كانت تشغلها فيما يفيد.
تطور المشروع فطلبت أن تتشكل مجموعات من الطلاب تنشر ثقافة تنظيف البيوت من تلك المهملات التى نزرعها بأيدينا فوق الدواليب وتحت الأسرة وفى شرفات المطابخ وأعلى سطوح المنازل وفى الأدراج والدواليب كما قلت ، ناهيك عن الأجهزة المنزلية التى لم يعد يستخدمها أحد إما لأنها تحتاج إلى إصلاح بسيط أو لأننا استبدلناها بموديلات أحدث ، وأن نختار إسما لحملتنا ، وأن نستغل التكنولوجيا فى نشر أفكارنا بين أهلينا وأصدقائنا وزملائنا فى العمل . واقترحت أن نتبرع بكل مايمكن إعادة استخدامه ولو بشيئ بسيط من الإصلاح لبعض الجمعيات الأهلية التى تتبنى الأيتام أو تقوم بتزويج العرائس أو رعاية الأسر المحتاجة وهى كثيرة .. حتى الملابس القديمة والتى لم نعد نحتاج إليها والتى تشغل حيزا مرموقا فى دواليب منازلنا أو تمتلئ بها حقائب كبيرة نضعها فوق تلك الدواليب أو الفراغات المتاحة بدلا من استغلالها لإضافة لمسات جمالية فى أركان المنزل أو حتى تركها فارغة تعطى مساحة فراغ وإحساس بالاتساع .. حتى هذه يمكن التبرع بها لبعض الجمعيات التى توزعها على من يحتاجها أو حتى تبيعها لكى تستفيد من ثمنها فى أنشطتها الخيرية . واختار الطلاب – باعتبارهم من أجيال تالية لجيلنا – Facebook للتواصل مع كل معارفهم وأقاربهم وزملاءهم فى الجامعة والعمل والدعوة إلى تغيير عادة الاحتفاظ بالأشياء وعدم التخلص منها حتى لو كانت عديمة الفائدة .. أعلنوا الحرب بأنفسهم على ثقافة " معندناش حاجة تترمى " و " خليها يمكن تحتاجها ". وحين سألت عن الدافع من وراء احتفاظهم ببعض تلك النفايات مثل قطع السلك بأحجام مختلفة اكتشفت أن الحرفيين الذين يجلبونهم أحيانا لإجراء بعض الصيانة أو الإصلاحات يطلبون منهم " حتة سلك " أو مسمار ، بل وأحيانا كماشة أو شاكوش .. أليس غريبا ألا يحضر الحرفى مايحتاجه من أدوات ويعتمد فى ذلك على أهل المنزل ؟ ولماذا نقبل ذلك ولانرفضه .. هل ثقافتنا أيضا تجد العذر للحرفى فيما يفعل وتتعاطف مع سلوكه الغريب ؟ أنا شخصيا حين اضطر لاستدعاء أى حرفى – أقول أضطر لأنى أقوم ببعض الإصلاحات البسيطة فى بيتى بنفسى – أصف له بلغة بسيطة المطلوب منه ، ودائما أختم مكالمتى بالتأكيد على إحضاره لما يحتاجه من أدوات ، وحين يدعى بعضهم النسيان أصر على ذهابهم لإحضار أدواتهم قبل البدء فى الإصلاح .. كثير من الضغوط التى نتحملها دون داع تكون نتيجة لقبولنا التنازل عن حقوقنا تجاه الغير ، وعلى وجه الخصوص حين نكون فى وضع " العميل " الذى يدفع ثمن الخدمة كاملا ولاينبغى بحال أن يقبل أقل من ذلك .. لايعنينى كثيرا أن يعلق طلابى بأنى " كده حاأوجع دماغى " وأعلق بدورى قائلا "ماهو البديل ؟" البديل هو أن أقبل أن يمد أحدهم يده فى جيبى ليأخذ ثمن خدمة لم يؤدها أو أداها بمستوى متدن ؟
وتطورت الفكرة أكثر لكى تمتد إلى المكاتب الشخصية فى مكان العمل .. هناك ثقافة مجتمعية تحترم الكلمة المكتوبة وتبجل المستندات وتعلى من قيمتها حتى لو لم يحترمها أحد .. والمشكلة فى مكان العمل أن أطنانا من الأوراق والمستندات التى نحتفظ بصور منها "ربما نحتاج إليها يوما ما " أصبحت تشغل مساحات عظيمة من الأدراج والأرفف وأركان غرف العمل ، وبعضها نسخ مكررة لمجلدات صدرت لتنظيم العمل أو لتوثيق مشروع أو تحتوى على عقود لأعمال اكتملت . وحتى بعد اختراع الكمبيوتر وإمكانية حفظ كافة المعلومات المتعلقة بموضوع ما واسترجاعها وطباعتها وتصويرها وتبادلها مع الغير ، لاتزال " الثقافة الورقية " تسود مجتمعنا وتعقد حياتنا وتتحدى إرادتنا فى الحفاظ على نظافة مكان العمل والتمتع بمزيد من الفراغ الذى يعيننا على تحمل أعباء وضغوط المسئوليات التى نقوم بها . وليت الأثر السلبى لتلك الثقافة يقف عند هذا الحد ، ولكن الأثر النفسى الذى يترتب على تشجيع الاحتفاظ بالمستندات وتوثيق التعامل اليومى بين الزملاء فى مكان العمل يؤصل ثقافة انعدام الثقة والحاجة الدائمة لإثبات تحرك كل ورقة من مكان إلى مكان ومن يد إلى يد .. تكلفة هائلة وإهدار للوقت لو وفرناهما وخصصناهما لتحسين الخدمات التى تقدم لعملاء كل جهة أو هيئة لبلغنا شأوا عظيما فى مستوى جودة الأداء ، ولتوافر الكثير من الموارد المالية التى يمكن ضخها فى برامج تعنى برفاهية العاملين وصحتهم النفسية .. جاءنى بعض طلابى ضاحكين وأسروا إلى أنهم اكتشفوا صورا لفاكسات ومذكرات داخلية خاصة بشئون روتينية يرجع تاريخها لأكثر من خمس سنوات وبعضها أكثر من ذلك ، ولم يحدث مرة واحدة أن احتاجوا لتلك الصور التى تتكدس فى أدراج مكاتبهم دون داع . وحين تعمقت أكثر فى سؤالهم عن المردود السلبى لبعض تلك المكاتبات التى احتفظوا بصورها تبين لى أنهم غالبا مايحتفظون بالمستندات التى توثق مشكلة ما كدليل على أدائهم لدورهم فى حل المشكلة ، ولكنهم بدلا من أن يواجهوا الطرف الآخر لمناقشة المشكلة وجها لوجه والتعاون فى حلها آثروا إرسال مكاتبة والاحتفاظ بصورتها آملين أن يتكفل ذلك بالقضاء على المشكلة . وحين طلبت منهم ذكر عينة من الجمل والألفاظ التى استخدموها وتصور أثرها على المتلقى ، أكتشفوا أنهم أحيانا كانوا يتعجلون الكتابة فلا يعنون بدقة المعانى ، وبعضها يمكن أن يترتب علي سوء تفسيره مشاعر سلبية من قبل زملائهم بما يلى ذلك من تجاهل وجفاء وزيادة المشكة فى بعض الأحيان .
تلك تجربة ذاتية لاستغلال مساحة المتر المربع الذى يملكه كل منا ، ومدى تأثير هذه المساحة الضيقة التى تخضع لسيطرتنا الكاملة ولانحتاج فى إدارتها إلى توجيه من أحد ولا تدخل فى قراراتنا .. لو حرص كل منا على التحرك فى تلك المساحة لكى يبدأ مشروعا صغيرا يخطط له جيدا ويقنع به الآخرين ويحفزهم على المشاركة فى تنفيذه لأصبح التغيير إلى الأحسن ممكنا .. أشياء كثيرة فى سلوكنا يمكن أن تتغير ، ومظاهر سلبية تحيط بنا يمكن أن تختفى ، وعراقيل تعوق حركتنا يمكن التغلب عليها .. فقط تعالوا نجرب ..!
No comments:
Post a Comment