ربما لم يجمع المصريون على شيئ فى
حياتهم – أو على الأقل الأغلبية الكاسحة منهم – مثل اجتماعهم على طرد الإستعمار فى
أوائل الخمسينيات من القرن الماضى، وطرد مبارك وعصابته فى ثورة لم يشهد التاريخ
مثلها .. المعنى هنا أن الأضرار التى أصابت الوطن من ذلة ومهانة ونهب وسلب لثروات
مصر وحدت الإرادة القومية على هدف واحد تحقق فى الحالتين .. الآن تغير الوضع وجيئ
برئيس منتخب فى امنتخابات حرة ونزيهة أجمع عليه غالبية الناخبين، ومهما كان توجهه
أو انتماءاته فلابد أن يكون أفضل من رئيس كانت رسالته فى الحياة أن يستنزف الوطن
ويجرف ثرواته لآخر مليم دون أن يستثمر حتى ولو جزء يسير مما قرر نهبه فى تحسين
أحوال الناس وجودة حياتهم .. اختار الشعب الديموقراطية سبيلا للحكم ولكن الغريب أن
مانراه على الساحة اليوم لايمت للديموقراطية فى أبسط صورها بصلة فلايزال كل فصيل
سياسى يرتدى لباس الحرب وينازل كل فصيل آخر يريد أن يصرعه ويجهز عليه لكى يظل وحده
على الساحة يسابق نفسه ويلهو بألعاب الحرب فى مباريات حبية بين قواته .. رفض قبول
الآخر ثقافة ترسخت وأصبحت موروثا ومكونا أصيلا فى تكوين "شخصية مصر"
واصبح هناك غالب ومغلوب وفائز وخاسر وبين هذا وذاك أصوات عاقلة تحاول أن تصرخ
وتنبه إلى أن الوطن فى خطر وأننا كلنا خاسرون لو استمرت ثقافة الإنفصال عن الواقع
وتشتيت القوى .. أحيانا أشعر أنى أعيش "مشروعا قوميا لتصفية الحسابات"
تحولت مصر بسببه إلى ساحة قتال كما قلت يسقط فيها القتلى والجرحى، ليس دفاعا عن
المصلحة الوطنية العليا للبلاد ، وإنما عن مصالح شخصية أو حزبية ضيقة تختزل مصر
كلها فى حزب أو فصيل سياسى أو مصالح فئوية شديدة الأنانية.
أتساءل أحيانا: لو كان الرئيس
المنتخب قد جاء من أحد الأحزاب القائمة غير الحزب الذى جاء منه الرئيس الحالى هل
كان الحال سوف يتغير ؟ وهل كانت باقى الأحزاب والفصائل السياسية سوف تقبل بما جاء
به الصندوق دون أن تشكك فى النوايا أو فى استشراف مستقبل الحكم فى مصر، وهل كانت
سوف تحاسب الرئيس الجديد ساعة بساعة عما فعله ومالم يفعله اكتفاء بالفرجة عليه
وعدم فرض وجودها للمشاركة فى الحكم سواء بالرأى أو بالعمل؟ أفهم طبعا أن أى حزب أو
فصيل سياسى من حقه أن يسعى للحكم وأن يضيق بطول المدة التى ظل فيها خارج دائرة
اتخاذ القرار السياسى أو محصورا فى دائرة الأقلية العددية فى المجالس التشريعية،
ولكن، أليس من العدالة أن نسأل: وأين كانوا أثناء حكم ديكتاتورى استمر لأكثر من ثلاثين
عاما رضى بعضهم فيها أن يقوم بدور السنيد لفتى الشاشة السياسية الأوحد وهو
"الحزب الوطنى"؟ وحتى لايفهم كلامى خطأ على أنه دفاع أو تحيز لهذا أو
ذاك أبادر فأقول أنى أنضم لكل رأى يطالب الرئيس الجديد أن يمارس صلاحياته وأن يفى
بوعوده وأن يعلن عن وزارته الإئتلافية التى وعد بها، وأن يعيد بسرعة ترتيب
أولوياته لكى يقتحم المشاكل الملحة التى عانى الناس منها طويلا بعد أن خربت البنية
التحيتية ليس فقط لشوارع مصر ومساكنها ومرافقها وإنما للشخصية المصرية نفسها ونتج
عنها تغيرات عصفت بالقيم التى تربينا عليها بعد أن عصفت بصحة الناس الجسمانية
والنفسية .. دمار قومى شامل يرثه الرئيس الجديد ويحتاج لفريق رئاسى متكامل يضم
خيرة أبناء مصر من كل الإتجاهات فى الحكومة والمجالس الإستشارية والمساعدين أيا
كانت المسميات، وخطط واضحة بتوقيتات محددة وموارد معلنة لتنفيذ الإصلاح المطلوب.
تعالوا نأخذ من التاريخ عبرة
تعيننا على فهم بايجرى .. عبد الناصر حين حكم مصر لم يكن صاحب رؤية وإنما كان يملك
حلما رومانسيا لتحقيق الرفاهية لكل الناس وقومية عربية تجمع كل العرب، وعلى الرغم
من أنجازاته الكبيرة التى أعانه عليها خبراء استخدمهم فى بداية حكمه عدة سنوات إلا
أنه ألحق بمصر أفظع كارثة وهزيمة فى تاريخها الحديث بعد أن تحول إلى دكتاتور يطيح
بكل من حوله حتى لم يبق إلى جانبه سوى ضابط وحيد مارس السياسة وسبر أغوارها تولى
الحكم بعده وألحق بإسرائيل أكبر هزيمة فى تاريخها واسترد كرامة مصر والأمة العربية
بالعبور العظيم .. أما مبارك استطاع بقدراته العقلية المحدودة وجموده وضحالة فكره
أن يحكم مصر ثلاثين عاما وأكثر وصار الحال إلى مانحن فيه على الرغم من أنه كان
يحيط نفسه طوال مدة حكمه برجال مثل بطرس بطرس غالى واسامه الباز ومصطفى الفقى وهم
من النخبة الذين اكتفوا بدور المتفرج أو "الناصح الناعم" أحيانا بينما
يتحول الحاكم إلى ديكتاور توحش ولم يشبع من نهش لحم مصر.. هناك بالقطع مخطط كان
معدا سلفا يسمح للملايين من أتباع مبارك الذين يتغلغلون فى المحليات وفى كل أجهزة
الدولة ومناطق النفوذ بها أن ينشروا الفوضى ولا يستسلموا بسهولة أو يسمحوا بأن
تخلوا الساحة للأى قادم جديد مادام من خارج صفوفهم..والخطورة هنا أننا بسكوتنا على
مايفعلون سوف ونعيش فى ثورة مستمرة باعتصامات وإضراب عن العمل وصراع على السلطة وكلها
ونكون بذلك فى حالة "انتحار قومى".. تعالوا نجرب مرة أن نثبت فشل الرئيس
الجديد بالعمل معه بدلا من أن نشل حركته لكى يفشل فنثبت أننا كنا على حق!
No comments:
Post a Comment