Friday, January 29, 2010

الديموقراطية تبدأ باستطلاعات الرأى

الذين حضروا المؤتمر الدولى الثانى لاستطلاع الرأى بالقاهرة الأسبوع الماضى ربما يخرجون بانطباع واحد أكدته البحوث التى قدمت والكلمات التى ألقيت يتلخص فى أن الديموقراطية الحقيقية فى أى بلد لابد وأن تبنى على استطلاع آراء الناس حول القضايا التى تهمهم والتى تعتبرها الحكومات مؤشرات قوية تحدد أولوياتها وتبنى عليها خططها.. ومنذ أن نبه عالم الإجتماع الأمريكى "تشارلز هورتون كولى" فى 1918 النظر إلى أهمية عملية التواصل بين الحكومات والناس من خلال بحوث الرأى العام أخذت أهمية تلك البحوث فى التعاظم وتزايدت أعداد مراكز استطلاع الرأى فى العالم لتغطى مابين حكومى وخاص ، تغطى استطلاعاتها كافة نواحى الحياة اقتصاديا وسياسيا ودينيا واجتماعيا على امتداد الكرة ألأرضية بقاراتها الستة.
وفى ظل تورة الإتصالات التى يعيشها العالم الآن إزدادت مساحة التغطية فى استطلاع آراء الناس واصبح هناك نوع من "التمكين" لفئات لم يكن يمكن أن يسمع صوتها لو لم تتح لهم وسيلة سهلة وسريعة لإبداء آرائهم ، وأصبح الناخبون يشاركون فى الإدلاء باصواتهم لاختيار مرشحيهم من أى مكان فى العالم ، ولم يعد الأمر قاصرا على مراكز استطلاع الرأى الرسمية تحتكر المعلومات وتوجهها حيثما تشاء ، بل اصبح فى مقدور الناس أن ينشئوا مراكزهم الخاصة المستقلة عن الحكومات، ومن خلال المدونات الشخصية التى يحررونها .. وتبارت الصحف وأجهزة الإعلام لكى تستطلع رأى قرائها ومشاهديها فى الكثير من القضايا المثارة والخلافية حول شئون الوطن.. أصبح العالم شبكة اتصالات واحدة عملاقة يتواصل من خلالها الناس ويشاركون بالرأى الذى يتخطى دون عوائق اى حدود ، وأصبح اهتمامات الناس عالمية وليست إقليمية أو محلية فى مشاكل البيئة والغذاء وندرة المياه واسلحة الدمار الشامل وتجنب الكوارث.
الموضوع إذن أكبر بكثير من مجرد إنشاء مراكز لاستطلاع الرأى وإنما يتعدى ذلك إلى أن يكون "مرصدا" لكل مايدور فى المجتمع والعالم من حولنا ، يحلل ويخرج بآراء مدروسة يضعها أمام واضع السياسات فتكون القرارات التى تصدر متوافقة مع مايتوقعه الناس.
من هذا المنطلق تحولت مراكز استطلاعات الرأى فى العالم تدريجيا إلى "مراكزفكر" يتم بداخلها أول مراحل صنع القرار من المادة الخام التى تمثلها آراء الناس تجاه قضية ما .. وربما كان ذلك وراء المبادرة التى خرجت من المؤتمر بتكوين "شبكة عربية لمراكز استطلاع الرأى" فى العالم العربى لكى تكون كيانا عملاقا تتكامل فيه الإمكانات الهائلة المتوافرة لدينا .. وأهمية تلك الفكرة هى أنه بوضعنا الراهن ليس هناك وسيلة نرد بها على نتائج استطلاعات الرأى التى تخرج علينا بها كل حين المراكز العالمية المرموقة فى هذا الشأن والتى قد يشوبها تحيزات خاصة قد "توجه" الإستقصاء فيخرج بنتائج غير دقيقة .. فكرة نبيلة وجيدة لو توافر لها إمكانات النجاح وأولها أن تأخذ شكلا مؤسسيا يحدد رؤيتها ورسالتها وأهدافها ومنهج اختيار أعضاءها وطريقة إدارتها وصيانتها حتى لاتترك للإجتهادات الشخصية أو التصارع على المناصب أو محاولات التأثير على عملها ، وبحيث لاتتبع الحكومات فى البلدان العربية المشاركة فيها حتى تكتسب المصداقية التى تكتسبها مراكز الفكر المستقلة مثل "جالوب" الذى يعمل منذ سبعين عاما ولايقتصر عمله على استطلاعات الرأى بل تتبعه الآن جامعة تحمل إسمه تمنح أعلى الدرجات العلمية ، ودار نشر ضخمة تطبع أعماله بكل اللغات ، وهيئات استشارية تضم الخبراء والمتخصصين فى علوم الإدارة والإحصاء والسياسة والإجتماع .. بدون هيكل مؤسسى تصبح فكرة تلك الشبكة فكرة رومانسية تصلح للكلام عنها فى المنتديات والمؤتمرات دون أن يكون لها تأثير يذكر على توجيه السياسة العامة للبلدان العربية وتحولها إلى مجتمعات ديمقراطية.
هذا مايحدث بالخارج ، فماذا يحدث عندنا ؟ باستثناء عدد لايتجاوز أصابع اليد الواحدة من مراكزالمعلومات واستقصاءات الرأى فى مصر والتى تتمركز جميعها بالعاصمة والتى تنجز عملها بحرفية عالية تستند إلى قواعد العلم – بغض النظر عما إذا كان صانع القرار يأخذ بالنتائج التى تتوصل إليها من عدمه - فإن كثيرا من الهيئات والجهات إنجرفت إلى إغراء المكاسب المادية الرخيصة من تشجيع الناس على أن يبدو آراءهم فى موضوعات بسيطة ولكنها مثيرة تجظى بشعبية كبيرة تجتذب من يملكون تليفونا محمولا وتغريهم بحصد جوائز قيمة لو أبدوا آراءهم أو شاركوا فى مسابقة تعتمد على الرأى مثل التعرف على شخصية ما أو مؤلف أغنية أو التنبؤ بنتيجة مباراة مما يشيع ثقافة التسطيح ويجهض الغرض النبيل من وراء توسيع قاعدة المشاركة الشعبية فى إدارة شئون الوطن ويمكن أن يحدث تحولا جذريا فى ثقافة اللامبالاة والسلبية التى تهدد البقية الباقية من الأمل فى الإصلاح.

No comments: