قصة البوابين فى مصر نموذج لسيطرة العواطف
على العقل فى التعامل مع الناس، وحسن النوايا التى كثيرا ماتفسد اكثر مما تصلح وتخلق
مشاكل كان يمكن تجنبها أو تزيدها تعقيدا بدلا من أن تجد لها حلولا .. أغرت وظيفة
البواب فى مصر الملايين من أبناء الريف والصعيد والنوبة أن يهاجروا إلى عواصم
الأقاليم فى مصر وبتركيز شديد على القاهرة والإسكندرية حيث توفر الوظيفة سكنا
متواضعا للبواب وأسرته يتوافر بها المرافق الأساسية اللازمة ومرتب معقول وإكراميات
من السكان أو الملاك فى المناسبات والأعياد تعينه على العيش .. المشكلة أن ضمان
ذلك لايمثل حافزا للبواب أن ينظم حياته ويخطط لها على قدر إمكاناته، وإنما يظل
يعيش بنفس نمط الحياة التى يميزها العشوائية والإتكالية، وبدلا من أن يمثل ماحققه
من استقرار نسبى فى قيامه بعمله وإخلاصه فيه يركن إلى الكسل والتراخى حتى فيما
يتقاضى عليه أجرا إضافيا نظير تنظيف السيارات مثلا .. ولأن الملاك منشغلون بامورهم
الخاصة ويركزون – طبقا للثقافة العامة السائدة فى مصر – على مصالحهم فقط فإنهم يتجاوزون
فى كثير من الأحيان عن محاسبة البوابين الذين لايؤدون العمل الذي يتقاضون عنه
أجرا، وبالتدريج يصبح البواب جزءا هاما من الحياة اليومية لساكنى وملاك أى عقار
ويبدأ فى التخطيط لتحقيق أقصى فائدة من وجوده معهم وتزداد مطالبه تدريجيا فى سكن
أكبر بعد أن تضاعف عدد أبنائه ويضيق بهم المكان، ويبدأ فى بناء منزل بقريته
لايستخدمه ويؤجره ، ويبدأ مشروع تاكسى بشراء سيارة قديمه ثم يغيرها بعد أن تتوافر
له الإمكانات، ويشترى موبايل يدير به أعماله الخاصة بعد أن ينخرط فى سلك سمسرة
العقارات والسيارات، ويختفى تدريجيا من العقار الذى يعمل به ويترك زوجته أو أحد
ابنائه لقضاء حاجات السكان حتى يعتادوا على ذلك النمط الجديد من التعامل ويتقبلوه
.. بمعنى آخر يصبح البواب بالتدريج هو "مدير العقار" بدلا من ملاكه أو
ساكنيه ولايستطيع أحد أن يتخلص منه أو حتى استبداله بغيره دون مشاكل .. فى نقاش لى
مع بواب العقار الذى يقع به مكتبى حول كثرة اختفائه طوال النهاروبالذات بعد أن قام الملاك ببناء حجرة إضافيه فى جراج العقار
لسيادته على نفقتهم الخاصة ففوجئت به يقول : " ستة أطفال وأنا وأمهم، هل يمكن
أن يعيشوا فى حجرة واحدة؟ إحسبها سيادتك بقى." ولم أتمالك نفسى طبعا من الرد قائلا: "
واحسبها أنا ليه ؟ هو أنا اللى خلفتهم" .. بهذا المنطق من عشوائية التفكير
تفسد النخبة بسطاء الناس والعوام بدلا من ترشيدهم وتوعيتهم واستغلال حاجاتهم لكى
ينظموا حياتهم وربط المساعدات التى نقدمها لهم بالتزامهم فى أداء أعمالهم وإخلاصهم
واحترامهم لتلك الأعمال.
حادث عابر أطلق العنان لتفكيرى وخاطب فضول
الباحث داخلى لعقد مقارنة بين أسلوبنا فى الشرق فى تربية أبنائنا وبين أسلوب
الآباء والأمهات فى الغرب، وانعكاس ذلك على تكوين شخصية الأبناء وعلاقتهم بوالديهم
.. الوالدين فى الغرب يعودون الأطفال مبكرا على الإعتماد على أنفسهم، ويضعون حدودا
واضحة لالتزاماتهم تجاههم من توفير الحاجات الأساسية من مأكل وملبس وتعليم حتى
مرحلة معينة طبقا لإمكانات كل أسرة بالتعليم الجامعى مكلف جدا عندهم لمن لايحصلون
على منح التفوق ، ويعدون أبناءهم لقبول وظائف بسيطة أثناء عطلاتهم الصيفية للصرف
على أنفسهم وتوفير باقى احتياجاتهم او لتغطية نفقات الترفيه عن أنفسهم .. يصارح
الأباء أبناءهم بحقيقة أمكاناتهم المادية ويعودون الأبناء على سماع كلمة
"لا" لكثير من الطلبات التى يعجز الوالدين عن توفيرها، وبهذا ينشأ
الأبناء ممتني شاكرين لوالديهم ماتحملوه من أجلهم ويستتبع ذلك بالضرورة إحساسهم
أنه مدينين لهم بالفضل فى تربيتهم وتنشأتهم وتعليمهم فلا يتركون مناسبة تمر
لمجاملتهم أو الإحتفال بهم أو شراء هدايا بسيطة تعبر عن هذا العرفان بالجميل.
أما نحن فنحيط أبناءنا بكل الرعاية والحماية
فى كل مراحل عمرهم ، نخفى عنهم الأخبار السيئة، ونوفر لهم "كل" مايطمحون
فى تنفيذه وأحيانا دون أن يطلبوا أو قبل أن يطلبوا، ونعطيهم إحساسا زائفا بأننا
لانعجز عن توفير شيئ يريدونه مما يرفع سقف توقعاتهم باستمرار ويعطيهم إحساسا زائفا
بأننا لم نقدم لهم كل ماكان يمكن أن نقدمه .. الآباء فى الشرق يتحولون إلى
"مشروع" بالنسبة للأبناء ووسيلة لبلوغ أهدافهم فى الحياة ويعتبرونهم
مايقدمه الآباء واجبا وضرورة ومن ثم فإنهم غير مدينين لهم بشيئ .. الأبناء عندنا
يتعجلون الإستقلال ولكن على حساب الآباء ولايجدون غضاضة فى تحميلهم مسئولية تربية
الأحفاد والعناية بهم ويظلون يلجأون إليهم فى حل مشكلاتهم المالية والإجتماعية حتى
بعد أن يتزوجوا ويستقلوا بحياتهم، وحين يتحثون عن نجاحاتهم فنادرا مايأتى ذكر
الوالدين كرافد من روافد المعرفة التى أدت إلى هذا النجاح .. ويبدا الأبناء
بالتدريج فى نسيان المناسبات السعيدة فى حياة الوالدين أو حتى اختلاقها لتكريمهم
وإدخال السعادة على قلوبهم ، وسوف لاأخوض هنا فى أمثلة لجحود الأبناء فذلك مجاله
البحث العلمى وليس المقال الصحفى ولكنى أؤكد على الصدمة التى يمنى بها كثير من
الآباء فى الشرق من جحود الأبناء ونكرانهم لفضل الآباء والأمهات وتجاهلهم للتعبير
عن عرفانهم بالجميل حتى حين تتاح الفرص لذلك وتفاخرهم بأن ماحققوه من نجاحات فى
حياتهم إنما مرده إلى مواهبهم وجهدهم الشخصى وحده.
No comments:
Post a Comment