عشت طول عمرى أحب الكتب بكل أنواعها باعتبارها نوافذ تطل
على عوالم من المعرفة يستحيل لأحد أن يرتادها ويتجول بين دروبها حتى لو امتد عمره
لآلاف السنين .. وظل الإحترام الشديد والإحتفاء بكل كتاب جديد أقتنيه يلازمنى حتى
الآن فأعامله برفق وأفرد له مكانا بين الكتب التى تعالج نفس الموضوع أو قريبة منه
فى مكتبتى .. قطعت رحلات تعد بالسنوات الضوئية وليس بحساب السنين أقرأ كل شيئ واى
شيئ حتى تكونت لدى حاسة الحكم على مايجمعه أى كتاب بين دفتيه من معرفة فأقبل عليه
أو دجل ونصب بما فى ذلك دغدغة المشاعر وإثارة الغرائز فأبتعد عنه، ولكنى فى كل
الأحوال اكتسبت معلومات لم يكن ممكنا أن أكتسبها أو أقتنع بها لو لم أقرأ بنفسى كل
أنواع الكتب التى لم يترك مؤلفوها مجالا إلا وخاضوا فيه.
أغرانى ذلك ومازلت شابا يافعا أن أؤلف مجموعة قصصية مع
زميل فى المدرسة ونبيعها لمن أشفقوا علينا من زملائنا بقرشين (أيامها) وسبقنا
عصرنا فتجرأنا واستطعنا أن نقنع صاحب محل نظارات مشهور فى المدينة التى كنا نعيش
فيها على دلتا نهر النيل أن يعلن على غلاف الكتاب فوفرنا بذلك تكاليف طبع الكتاب
فى مطبعة خصص صاحبها عاملا يغلق علينا المطبعة بعد انتهاء العمل مساء ونظل حتى
طلوع الشمس نملى عليه بالتناوب ماكتبناه وهو يجمعه كلمة كلمة من حروف من الرصاص
أمامه ثم يقوم بطباعة كل صفحة يجمعها حتى اكتمل طبع الكتاب ( كان ذلك طبعا قبل
اختراع الكمبيوتر والجمع الآلى المتوافر حاليا والذى يستخدم فى كل مكان حتى المتواضع
من المطابع الصغيرة).
قرانا ونحن صغارا أمهات الكتب بقروش قليلة كان يشجعنا
على اقتنائها مدرسونا ممن كانوا هم أنفسهم يؤلفون الكتب ويقرضون الشعر، وذقنا طعم
الكلمة الجميلة تقال فى موضعها، والعبارة الرصينة تصف موقفا أو شيئا فتتخيل أنك
جزء من المشهد أو أنك تمسك بالشيئ الموصوف بيديك وتنظر إليه بعينيك .. شجعونا أن
نكتب مجلات حائط بخط اليد ونلونها وأن نجمع بها مواد متنوعة من الأدب والفكاهة والشعر
نجمعها بمجهود شخصى من ذوى المواهب من زملائنا، وكنا – وبنفس التحفيز الذى نلقاه
ممن علمونا – نمسك ميكروفون الإذاعة المدرسية ونذيع المواد التى كان مسموحا بها فى
ذلك الحين من أناشيد وطنية وتلاوات القرآن أو قصائد الشعر ومقطوعات الأدب يقرؤها
المتفوقون من الطلاب الذين يرشحهم الأساتذة أنفسهم والذين برز منها بعد ذلك كتابا
وفنانين قابلتهم فى الصحف والمجلات الكبرى التى كنت ولازلت أنشر مقالاتى بها.
من الكتب التى أقتنيها وأحرض على اقتنائها كل من أعرف من
الأصدقاء والطلاب والمعارف كتاب قديم للأديب الباحث العلامة أحمد تيمور باشا إسمه
"الأمثال العامية" جمع فيه ثلاثة آلاف ومائة وثمانية عشرة مثلا عاميا
معظمها لم يسمع به أحد من قبل ورتبها أبجديا، وفهرسها حسب الموضوع فى مرجع قيم
جميل ومسلى أهرب إليه كلما أردت أن استريح من وجبة علمية دسمة لكتاب قرأته أو ندوة
حضرتها أو مقال كتبته .. أتقاسم ماأقرأه فى هذا الكتاب على صفحات التواصل
الإجتماعى، وفى جلساتى واستشهاداتى للتدليل على موقف معين أو انتقاد لوضع قائم
يعجبنى أو لا يعجبنى فى كلمات قليلة ولكنها قمة التعبير .. حكمة مقطرة كما أسميها
وتراث للجدود لابد للأجيال الجديدة أن تعيه وألا تفرط فيه وأن تحافظ عليه وتتوارثه
حتى لايجرفها ويجرفنا التيار الدافق لتكنولوجيا المعلومات وأدواتها التى اصابت
عقولنا بالكسل فأصبحنا نأنس للمس للكمبيوتر والتليفون الذكى واللوحى أكثر مما نأنس
لكتاب نحس أوراقه ونشم رائحته ونقلب صفحاته.
الأمثلة التى أقرأها فى هذا الكتاب تعيدنى إلى طفولتى،
وتطير بى فى عالم خيالى يعود بآلة الزمن إلى مئات السنين ، ويزرعنى بين شيوخ كبار
يجلسون تحت ضوء القمر يتسامرون ويضحكون أو صامتون حزانى، أو متأملون لحال البشر
يعجبون لما اصابهم، ويصفون كل هذا فى كلمات قليلة تخرج من القلب نحتوها من البيئة
والمجتمع الذى يعيشون بمهارة الجراح الذى يعرف مكامن النفس البشرية ودوافعها لكى
تعيش آلاف السنين بعدهم تتداولها الأجيال.
No comments:
Post a Comment