Tuesday, December 30, 2008

كراكوزيا .. وفساد التعليم فى مصر

للمثل الأمريكى " توم هانكس " فيلم فكاهى شاهدته منذ سنوات أكثر من مرة إسمه "صالة السفر" The Terminal لأن كل أحداث الفيلم تدور فى صالة السفر بمطار نيويورك. الفيلم فى بساطته وعمق تناوله يصلح لأن نقرره على طلاب الدراسات العليا بجامعتنا وبالذات الذين يدرسون علوم الإدارة لكى يتعلموا الأساليب البالية التى ينتهجها البيروقراطيون حين يتولون المناصب العليا والتى تؤثر قراراتها على مصائر الناس . تذكرت الفيلم وأنا أكتب عن مأساة أو مصيبة أو بلوى التعليم فى مصر (سمها ماشئت فجميعها تعبر عن واقع مأسوى يمس جوهر الإنسان المصرى) وكيف يحتاج الأمر إلى ثورة شاملة ، بل إعصار يقتلع كل ماغرسه الهواه والبيروقراطيون وغير المتخصصين فى النظام التعليمى بآفاته المختلفة التى أصبحت تستعصى على أى نوع من المبيدات . الحقل لم يعد صالحا للإنتاج ، والمحصول أصبح نهبا للسموم التى تعصف بالفكر والعقل وتمسح ملامح الشخصية وتهد حيل أجيال كل مايربطها بالوطن أنهم ولدوا فى تلك المساحة من الأرض التى أصبحت تضيق بهم ولاتستوعب أحلامهم فى غد أفضل.
بطل الفيلم شخص بسيط نقى جاء من بلده "كراكوزيا" إلى نيويورك يحمل حلما غاية فى البساطة .. سافر إلى نيويورك لكى ينفذ وصية أبيه الذى كان يهوى جمع صور مشاهير العازفين ، وكانت أمنيته قبل أن يموت أن يستكمل مجموعته بصورة لعازف أمريكى مشهور .. جاء وليس لديه أدنى فكرة عن المدينة التى جاء لزيارتها ولا كيف سيجد العازف لكى يحصل منه على صورة موقعه فيكون قد أدى واجب الإبن البار تجاه والده وحقق له أمنية غالية حتى لو كانت بعد مماته. يصل البطل إلى مطار نيويورك ويفاجأ بأنه لن يسمح له بدخول نيويورك نظرا لأن انقلابا قد وقع فى الدولة التى جاء منها وبالتالى فإن جواز سفره لم يعد معترفا به كوثيقة رسمية . مدير الجمارك قمة فى البيروقراطية .. فعلى الرغم من أن المواطن البسيط لايعرف من اللغة الإنجليزية غير إسم البلد التى جاء منها ، يصر على إعطائه محاضرة فى التعليمات التى تنظم منح التأشيرات وأنه لايستطيع أن يسمح له بدخول نيويورك ، وأن كل مايستطيعه هو أن يسمح له بالبقاء فى صالة السفر لايغادرها حتى تحل المسألة وتعترف الولايات المتحدة بنظام الحكم الجديد فى " كراكوزيا " ويصر على أن يسأله أسئلة لايملك عليها جوابا. استسلم المواطن الكراكوزى لمصيره وبدأ فى التأقلم مع الوضع بأن يجهز مكانا بسيطا ينام فيه جالسا، ويتناول طعاما بسيطا يسد رمقه فى حدود المبلغ البسيط الذى يحمله ، ويومئ فى بشاشة لكل من يقابله لعجزه عن التواصل، واستطاع بذلك أن يكسب تعاطف بسطاء العمال بالمطار الذين سعوا للتخفيف عنه وتوفير حد أدنى من الراحة والإعاشه له ، بل إن واحدا منهم – المسئول عن مخزن تموين الوجبات للطائرات - قد استغله لنقل إعجابه لضابطة الجوازات التى كان يتردد عليها أكثر من مرة كل يوم يوميا أملا فى أن تختم جواز سفره المحتجز لديها بما يسمح له بدخول المدينة ، وفى كل مرة تبتسم له وتقول " ليس بعد ".

طوال هذا الوقت كان مدير الجمارك البيروقراطى قلقا متوترا أن أصبح لديه مشكلة يعجز عن حلها فى الوقت الذى ينتظر فيه الترقية إلى مدير مطار ، ومن ثم يستدعيه لكى يوحى إليه بطلب حق اللجوء السياسى ، ويستخدم كل مالديه من أدوات اتصال لكى يشرح له أنه لو أراد البقاء فى أمريكا وعدم العودة إلى بلده فسوف يساعده فى الحصول على التأشيرة اللازمة ، ولكنه يفاجأ بأن المواطن البسيط يرفض ألا يعود لبلده ومعه صورة النجم الذى جاء خصيصا ليحصل عليها لكى يضعها على قبر والده . ويجرب المدير حيلة أخرى بأن يعطى تعليماته لرجال الجمارك التابعين له بغض النظر عن الرجل وأن يسهلوا له الخروج من المطار فتصبح المشكلة تابعة لمصلحة الجوازات والهجرة بعيدا عن نطاق مسئوليته، وبالفعل يبتعدوا عن بوابات الخروج لعله يغافلهم ويهرب . ومرة أخرى لايحاول المواطن البسيط أن يفعل ذلك انتظارا لتأشيرة رسمية تمكنه من زيارة المدينة. يشغل المواطن نفسه بأعمال يدوية بسيطة يساعد بها عمال المطار، وأصبح شخصية مشهورة يتحدثون عنها لطيبته وتعاونه ، ويتعاطف العمال البسطاء من غير الأمريكيين مع قضيته ، ويصبح بالنسبة لهم رمزا لتغيير النظم البالية التى تطبق عليهم فى تعسف لحين حصولهم على الجنسية ، بل إن واحدا من هؤلاء تعمد أن يعطل إقلاع طائرة بأن وقف أمامها فى المدرج لكى تصوره أجهزة الإعلام وتلفت النظر إلى قضيتهم، على الرغم من أن ذلك يعرضه للقبض عليه وترحيله إلى بلده . ويخرج المواطن أخيرا بتأشيرة ويستدل على عنوان الموسيقى المشهور ويحصل منه على صورته الموقعه ويعود إلى المطار لكى يستقل الطائرة عائدا إلى بلده بعد أن حقق لوالده أمنيتة .

والآن ، ما أوجه الشبه بين أحداث هذا الفيلم وبين قضية سوء الإدارة فى مصر وتقلد البيروقراطيين لمناصب اتخاذ القرار . سوف أضرب مثلا بالتعليم وماأصابه على يد هؤلاء باعتباره من أهم أولوياتى . تعالوا نسأل : هل يصلح البيروقراطيون لكى يديروا الثورة المطلوبة لإصلاح التعليم فى مصر وهم لايملكون المؤهلات اللازمة لقيادة ثورة بهذا الحجم والتأثير، خاصة وأنهم لايملكون أى خطط معلنة لإحداث التغيير المطلوب . ولقد قلت قبلا ، وسوف أظل أكرر أنى أتحدى أن يعلن الوزير المسئول خطة استراتيجية لإصلاح التعليم فى العشر سنوات القادمة باعتبار أنها أدنى مدة يمكن أن تنتج عائدا محسوسا . ولايوجد خطط لدى الهيئات والمؤسسات التى أنشئت لهذا الغرض ، وإنما نشاطات عشوائية تعطى إنطباعات كاذبة بأن شيئا يحدث دون حتى أن يتوافر آليات قياسه للتأكد من العوائد الإيجابية للملايين التى صرفت وسوف تصرف فى هذا السبيل . البيروقراطيون لايصلحون لا فى التعليم ولا فى غيره لقيادة التغيير، هم تنفيذيون يطيعون الأوامر ويجيدون اتباع النظم وكتابة التقارير التى تجمل الصورة وتحمى ظهورهم من الوقوع فى أى خطأ يحاسبون عليه. ولو حاولنا أن نرسم صورة موجزة بأهم ملامح هؤلاء سوف نجد أن :

· البيروقراطى يتميز بالجمود ويقتل الإبداع ويحتمى خلف القوانين واللوائج والنظم ، يبحث فيها عن ملاذ آمن يحميه من المساءلة بعد استيفاء كل المستندات قبل أن يأخذ قرارا بينما قيادة التغيير تتسم بالمرونة الشديدة والسرعة فى اتخاذ القرارات دون خروج على القانون . من هنا لايمكن أن يقرب البيروقراطى منه غير بيروقراطى مثله يتفهم أسلوبه فى العمل بحذر ويرتعب من التوقيع على قرار . وهو يخشى أن يقرب منه كل صاحب خبرة ومعرفة فهؤلاء يمثلون بالنسبة له تهديدا قد يعصف به . والتوقيت مهم فى إحداث التغيير ، والبيروقراطى لايأخذ بزمام المبادأة وينتظر أن يقرر له غيره ، ويوافق دون معارضة على مايقوله رئيسه فيصبح مع مرور الزمن نسخة كربونية منه يتوحد مع أفكاره ويسعى لإرضائه من خلال تنفيذ مايطلب دون زيادة .

· التغير يحتاج لقيادة مؤهلة لتشخيص المشاكل تشخيصا علميا واقعيا قبل وضع خطة للإصلاح وتنفيذها ، والبيروقراطى يخاف من العمل الميدانى والاختلاط بالناس والتواصل مع أصحاب المصلحة فى حل المشكلات الموجودة ، ويعتمد كما قلنا على تقارير يرفعها إليه غيره ممن يمكن أن يعلق الجرس فى رقبتهم لو حدث خطأ ما وأراد المسئول أن يحاسب . وهم يتسمون بالجبن فى الاعتراف بأخطائهم ويلصقونها فى غيرهم ممن يعملون معهم والذين قبلوا مسبقا أن يكونوا كباش فداء إذا اقتضى الأمر التضحية بأحدهم لكى يبقى رئيسهم متربعا على الكرسى مستمتعا بمزايا المنصب . وحتى لو حوت التقارير تقصيرا خطيرا فإن البيروقراطى يخفى ذلك حتى لايعرض رئيسه وولى نعمته للحساب . وتصبح الطريقة الوحيدة لكشف المستور لجان لتقصى الحقائق تقوم بزيارات ميدانية مفتوحة يتم فيها مناقشة الأوضاع بحرية وشفافية .

· قادة التغيير أصحاب رؤى يواجهون المشاكل ويقبلون المخاطر وهى صفات لايمكن أن تجتمع فى أى قيادة بيروقراطية تصدر المشاكل للغير ولاتقبل بالمخاطرة ، وتحس بالإطمئنان والأمان فى بقاء الأحوال على ماهى عليه بالطريقة التى اعتادوها وتتناسب مع قدراتهم المحدودة بحدود علمهم باللوائح والنظم التى هى بالنسبة لهم قلاع يحتمون بها من غزوات دعاة التغيير . الأسوأ من ذلك أن البيروقراطيين دائما مايلتمسون بوليصة تأمين طويلة المدى على سد كل المنافذ لشل حركة التغيير وإجهاض أى محاولات جادة لإحداثه وذلك من خلال التحكم فى الموارد التى يجعلونها قاصرة على مريديهم دون غيرهم الذين يغرقونهم فى تلال من الأوراق والنماذج والتقارير حتى يملوا اللعبة وينسحبوا فى هدوء بعد أن أنهكهم التعب والقرف واليأس والإحباط.

بعد كل ذلك نسأل : هل هناك أمل فى إصلاح التعليم فى مصر ؟ الإجابة بالتأكيد نعم – وهناك حلول عملية سوف نقدمها تباعا - لو اقتنعت القيادة السياسية بأن فساد التعليم لابد وأن يكون وراءه فساد أكبر فى الممارسات والتعيينات والمكافآت وتوزيع المناصب وبأن الوقت قد حان لعملية تغيير شاملة تبدأ بالتحقيق فيما تم إنجازه وماصرف على مشروعات تطوير التعليم حتى الآن ، والمستفيدين من ورائها وكيف تم تعيينهم فى المناصب التى يحتلونها ثم تغيير القيادات الحالية إذا ثبت فشلها وتقصيرها وعرقلتها لعملية التغيير ، واختيار قيادات تتوافر لها الإمكانات والصلاحيات اللازمة لقيادة عملية التغيير والوصول بالتعليم فى مصر إلى مستوى يليق بمكانتها التى اهتزت بشدة على أيدى هواة التجريب بغير علم .. إن فساد التعليم فى مصر هو أكبر عملية فساد يمكن أن تصيب أمة فى أغلى مواردها والأمل الوحيد الباقى للنهوض بها. ومثلما أن هناك جناه سمموا شعب مصر بالمبيدات فلدينا فى التعليم من يسممون العقول بنظام تعليمى فاسد ومنتهى الصلاحية .

No comments: