وعدت القارئ فى المقال السابق من تلك السلسلة عن "أخلاقيات العمل" والتى بدأتها بخطاب جاءنى من أحد طلابى يثير فيه قضية الإيمان بأخلاقيات العمل ويطالب بأن يقرر تدريسها بجميع مراحل التعليم إذا أردنا أن تصبح سلوكا طبيعيا فى أى موقع وأى موقف، أن نقتحم الموضوع بطريقة عملية تقرب المعانى وتحرض على التفكير لكى يصبح القارئ جزءا من الموضوع وشريكا فى تحديد بوصلته.. وأعنى بالتحريض على التفكير هنا أن نتساءل سويا لماذا؟ ولماذا لا؟ حين نعرض لموضوع أو لمثال واقعى ، أى لماذا حدث ماحدث ولماذا لايحدث؟ بهذا نكون قد عبرنا عتبة التفكير الإبتكارى الذى يعين على الفهم ويقترح الحلول.
أما لماذا أبدأ بالأخلاق فى السياسة، فذلك لأنى أحاول أن ألاحق إيقاع الأحداث التى يمر بها الوطن والقوى التى تتصارع لكى تعبر به – من وجهة نظرها – إلى آفاق المستقبل تحقيقا لأهداف الثورة أو لأجندات ترى أنها "روشتة" علاج شاملة لكل أوجاع مصر .. ولابد للمراقب لما يدور على المسرح السياسى الآن أن يتعرض لشحنة مركزة من الإنفعالات والتساؤلات والإحباطات تجعله يردد مقولات كثيرة عن لعبة السياسة ومدى قربها أو بعدها عن قواعد الأخلاق بما فى ذلك "أن الغاية تبرر الوسيلة" والتى تلخص فى إيجاز كل ماورد فى كتاب نيكولو ماكيافيللى "الأمير" الذى يعتبر مرجعا فى النذالة السياسية ونظم الحكم منذ أكثر من خمسمائة عام وترجم إلى معظم لغات العالم ولابد أن النظم الدكتاتورية منذ ذلك الحين قد وعته وحفظته ظهرا عن قلب وطبقت ماجاء به لقهر شعوبها وإحكام السيطرة على مقدراتها وإخضاعها لأبدية حكم الطغاة.. الكتاب الذى أشير إليه كتاب صغير حجما ومقسم إلى فصول قصيرة تبلغ 26 فصلا أهداه ماكيافيللى للأمير لورنزو أحد أفراد عائلة دى ميديتشى الحاكمة فى فلورنسا فى القرن السادس عشرة ليصبح بذلك من أوائل الكتب – وربما أولها – فى الفلسفة السياسية وفى ابتداع كلمة "مكيافيللى" التى نستخدمها للتدليل على الخسة والنذالة فى سلوك البعض ممن يقفزون بشتى السبل على كل العوائق التى تحول بينهم بين بلوغ أهدافهم.
أحد أساتذتى – يرحمه الله – كان يرى جانبا مكيافيليا حتى فى علم الإدارة، فمن وجهة نظره أن المدير الناجح يجيد "استغلال" مرءوسيه وبحكم معرفته الوثيقة بهم يعرف نقاط ضعفهم ويستثمرها فى التأثير عليهم وتحفيزهم لمضاعفة جهودهم وشحز هممهم وبالتالى سهولة السيطرة عليهم .. بعض مديرى اليوم يلجأون إلى إزكاء روح التنافس بين مرءوسيهم وخلق نوع من التوتر المدروس والصراعات البسيطة اعتقادا منهم أن ذلك يجعلهم على علم بما يدور فى الخفاء ويجعل المرءوسين يتسابقون على إرضاء الرئيس ومحاولة التقرب منه .. ولعل ذلك يفسر بالتالى بداية تكوين مراكز القوى التى تنجح فى الإلتفاف حول صاحب القرار وفهم شخصيته وميوله وإسماعه مايحب وإظهار الطاعة العمياء وتنفيذ كل رغباته وبناء سياج فولاذى حوله لايسمح لغيرهم بتجاوزه وبالتدريج يصبحون ضرورة لاغنى عنها له ويصبحون هم من يفكر وينفذ وتنقلب الآية فيصبحون هم من يرقص الرئيس على إيقاعاتهم ويصبح ألعوبة فى ايديهم لأنهم الأقوى .. يستغلونه كمجموعة مصالح تحافظ على بقائها فى الوقت الذى يستغلهم هو فى إنفاذ إرادته وكواجهة يلصق بها عند الحاجة أى فشل ويختار من بينها كباش الفداء للتغطية على أخطائه ويتحملون عنه المساءلة القانونية عند الحاجة .. كل شيئ بثمن محدد سلفا فى غايات ومقاصد وأهداف ومكاسب تعرفها كل أطراف اللعبة الذين يتخفون خلف أقنعة تساعدهم على خداع الضحايا وبث الأمل الكاذب فى نفوسهم وبيع الوهم وتخدير الهمم فيسهل قيادتهم وتسخيرهم كمبرر لبقاء أمثال تلك العصابات، وبذلك تكتمل الدائرة الجهنمية للفساد السياسى.
هل هناك علاقة بين هذا النوع من الإدارة والعمل السياسى بوجه عام؟ نعم، ولكن السؤال الأهم هو: هل كل السياسيين كذلك؟ الإجابة بالقطع لا ، وإلا لما كان لدينا سعد زغلول زعيما تجمع عليه الأمة وتفوضه أن يتحدث باسمها دون استقصاء رأى مزور يصدره مركز ملاكى تابع لنظام الحكم ، ولما كان لدينا مصطفى النحاس الذى ذهب لقسم البوليس لكى يحرر محضرا لمواطن أخرق من المعارضة صفعه على وجهه وهو ينتظر القطار على رصيف محطة مصر مثل أى مواطن لكى تأخذ العدالة مجراها بدلا من أن يلقى به فى السجن أو يبعث به وراء الشمس، ولما كان لدينا فؤاد سراج الدين الذى يحكى عنه زعيم الوفد الحالى وأحد تلامذته سيد البدوى أن بيته هو الآخر كان بيتا للأمة مثل سعد، وأن طلابه وزملاءه ومريديه كانوا يذهبون لرؤيته فى بيته فى أى وقت ويصعدون حتى إلى غرفة نومه فيفتحون الباب إن كان مغلقا ويدخلون إلا فى حالة واحدة فقط : أن يكون الزعيم على سريره يستريح فى إغفائة قصيرة من عناء يوم طويل، ولما وقف النائب عباس محمود العقاد أثناء مناقشة البرلمان للميزانية يهدد بقطع "أكبر رأس فى البلاد" أى ملك مصر والسودان .. ويظل السؤال الذى يفرض نفسه ويحرض على مزيد من التفكير: هل يزيد التمسك بالأخلاق فى ظل الديموقراطية باعتبار أنها تسلط أضواءها الكاشفة على سلوك الحكام وتجعل من نواب الشعب رقباء يرصدون أى انحراف يضر بمصالح الناس ويخضعون الحاكم للحساب والعزل والعقاب إن خان الأمانة؟
No comments:
Post a Comment