عدت أخيرا من جولة عمل ختمتها بزيارة دولة عربية دعتنى إحدى جامعاتها لتدريس مقرر فى "أخلاقيات العمل" لطلبة الدراسات العليا بها .. ومن مزايا التدريس لأصحاب الرسالات الذين يرون فى التدريس وسيلة لنشر أفكارهم عبر أجيال من طلاب العلم أنك تحس وترى ناتج عملك أمام عينيك من خلال تفاعل الطلاب معك وأسئلتهم التى تترجم مستوى اهتمامهم بالموضوع وشغفهم للإستزادة .. وكثيرا مايرسل إلى بعض الطلاب بعد كل برنامج أنفذه كلمات شكررقيقة يعبرون بها عن تقديرهم للجهد الذى بذل ، ولكنى فى هذا البرنامج بالذات لم أكن أتصور كم الرسائل التى تلقيتها والتى تركز على تأثير البرنامج على سلوك الطلاب بل واعتراف بعضهم بشجاعة بسلوكيات اعتادوا عليها يعملون الآن على تغييرها لكى تتسق مع قواعد الأخلاق التى نوقشت فى المحاضرات وحلقات البحث التى تلتها.. ولقد نبهنى ذلك إلى أن معظم مؤسساتنا والحكومى منها بالذات لابد وأن تكون قد تحولت إلى بؤر فساد فى ظل نظام تثبت الأيام أن حجم وأشكال الفساد الذى اتخذه منهجا للحكم على امتداد ثلاثة عقود لم يسبق له مثيل فى التاريخ على مر العصور, ومن ثم فإن الحاجة إلى الوعى بموضوع "أخلاقيات العمل" تصبح ماسة وضرورية ونحن نكتب معا مستقبلا لمصر جديدة بعد أن زال الكابوس ومعه شياطينه.
ولعلى أنشر هنا فقرة من الخطابات التى تلقيتها من أحد طلابى فى هذا الشأن ينبه - وأنا أؤيده فى ذلك - إلى أهمية أن تتضمن المناهج الدراسية فى العالم العربى منهجا "لأخلاقيات العمل" بدءا بالتعليم الأساسى حتى يصبح الإلتزام بقواعد الأخلاق سلوكا طبيعيا داخل العمل وخارجه .. يقول الطالب الذى آثر إخفاء إسمه حتى لايكون هناك شبهة تملق فيما قال ودون تدخل منى لتصحيح الأسلوب أو الأخطاء التى وردت بالخطاب والتى تثبت ماآل إليه حال التعليم فى وطننا العربى كله وإهمالنا للغتنا الأم: "...استفدت كثيراً من هذه المادة لدرجة أنني اكتشفت بعض اعمالي لا اخلاقية ولكن مع العاده لا اعلم بنوعها أخلاقية أم لا أخلاقيه ، أصبحت وأنا اسوق السيارة اردد جملا أثرت في كثيرا لدرجة أنني اشك بنفسي انني صرت موسوس من كثرة التفكير بالامور، ليس كل اعمالنا صحيحه فنحن بشر نصيب ونخطيء وخير الخطائين التوابين .. لا اخفيك يادكتور أنى اتسائل كثيراً عن دوركم في نشر التوعيه عن اخلاقيات العمل ، نرى اخلاقيات العمل ككلام فقط لا تطبيق نجده في الشركات وفي المؤسسات وفي المنظمات الكبيرة وبالواقع في المجتمع العربي البعض منهم وضع هذه الاخلاقيات كتمثال عند باب الشركة ومن ناحية التطبيق لا يلتزم الشخص بها ، فلولا انني بحثت عن الماجستير وإلا لن استفيد من هذا العلم الذي ارى ومن وجهه نظري أن يتم تعليمة لأبنائنا في المدارس الابتدائية ويستمر معهم حتى المرحلة الجامعية فهو علم يطبق ما جاء في الشريعة والدين أتمنى ان يكون هنالك توعيه أكثر كما كانت في محاضراتك لنا ويحزنني كثيراً بأنني لا اسمع عن دورات تدريبية عن اخلاقيات العمل فأنا سأكون أول الاشخاص في التسجيل لها ليس مجامله لسموكم الكريم وإنما هوحرص لنفسي من الانجراف وراء التيار الخاطيء .. ثم ختم بكلمات شكر كثيره أجتزئ بعضها لدلالتها التى سوف استشهد بها وليس لآى غرض آخر: "... واسأل الله أن يجزيك خير الجزاء على ما قدمته لنا من فتح أعيننا على علم كنا نجهله، علم يفتح به الضمير ويصقله... "
والعبارة الأخيرة بالذات هى التى تهمنى فى هذا السياق وتدعونى إلى التساؤل: هل نحن فعلا نجهل هذا العلم ؟ وهل تدريسه يفتح الطريق أمام تنبيه الضمائر وصقلها كما حاول الطالب أن يقول؟ كلنا نعلم المقولة الشهيرة للشيخ محمد عبده حين زار باريس ضمن البعثات التى أرسلها محمد على للخارج لكى تنقل إلى مصر علوم الغرب وتقدمه فى ذلك الزمان "رأيت إسلاما ولم أرى مسلمين" والتى أراد بها أن يؤكد على أن الإسلام كمثال لأديان السماء يحض على الفضيلة والتمسك بمكارم الأخلاق سلوكا وعملا يطبقها الغرب ويحقق بها التقدم الذى ذهبت بعثاتنا تنشده وتنقله إلى مصر .. ولايزال الغرب يولى مسألة أخلاقيات العمل أو مايسمى Business Ethics عناية كبيرة ويجعلها مقررا إجباريا فى مدارسه وجامعاته، ومعها حزمة قوانين تحاسب أصحاب المهن غير الملتزمين وتعتبر ذلك إساءة كبرى فى حق المجتمع وجريمة يعاقب عليها مرتكبها بالغرامة أو السجن أو كلاهما طبقا لظروف كل حالة .. وطبيعى ألا يكون لمثل هذا المقرر مكان فى دول الفساد كما حدث عندنا حيث الأمانة والإلتزام أستثناء يطارد أصحابه ويستبعدون ويراقب أصحابه باعتبارهم خطرا يهدد أمن المجتمع "واستقراره" ، وأظن أن خطاب الطالب قد فتح شهيتى للكتابة عما يقوله العلم (وأعنى هنا مجموعة العلوم التى تشكل معا أساسا يقوم عليه) وعن تجارب شخصية كاشفة تقرب المعانى إلى الأذهان .. وللحديث بقية.
No comments:
Post a Comment