Wednesday, August 24, 2011

صندوق الدنيا وفساد الأحزاب

لاشك أن أبناء جيلى لازالوا يذكرون كيف كنا نحن صغارا نقطع المسافات الطويلة سيرا على الأقدام خلف رجل يحمل على ظهره صندوقا خشبيا ودكة صغيرة لندفع له جزءا من مصروفنا اليوم فنجلس منفردين أو مجتمعين على الدكة التى يحملها وننظر من خلال فتحة فى الصندوق بعد أن يغطى رؤوسنا بملاءة متصلة نحدق بانبهار فى الصور المتتالية داخل الصندوق والتى يحركها الرجل يدويا بينما يحكى لنا قصص البطولات الخارقة لأبو زيد الهلالى وعنترة إبن شداد والزناتى خليفة وكيف أن كل واحد من هؤلاء كان يطيح بألف رجل فى كل ضربة سيف ، ويحارب قبيلة بأكملها لكى ينقذ حبيبته التى اختطفها الأعداء ويعلو زئيره جلجلا فيفرون هاربين من أمامه كالفئران .. قصة "رامبو" العربى التى طورتها السينما الأمريكية فى سلسلة من الأفلام تمجد الإنسان الغربى وتذكر العرب دوما ببؤسهم وضعفهم وهوانهم على أنفسه أولا ثم على باقى الناس فى كل بقاع الأرض، وكانت تلك هى البداية لممارسة بعضنا للرياضات العنيفة مثل الملاكمة والمصارعة حتى نرتقى فى سلم الرجال ونزداد طولا ولو بشبر واحد.. وحين شببنا عن الطوق وبدأنا نقرأ الصحف المحترمة التى كانت تصدر فى هذا الزمن الجميل أكتشفنا عالما آخر يضم أبطالا من نوع آخر لايقلون أهمية عن أبطال صندوق الدنيا فى السياسة والقانون والإقتصاد والتنمية الإجتماعية والتنظيمات النقابية يزلزلون العروش ويحاسبون الحكام ويدافعون عن الدستور بل ويسقطون النظم المستبدة.


لذلك أعتقد أن الأحزاب السياسية فى أى بلد – وبالذات فى مصر - كانت ولاتزال "دنيا" لاتحتاج إلى صندوق أو إلى "غجرى" يتولى عملية السرد المشوق لما يجرى بعد أن صار مايدور بداخلها مشاعا يعرفه القاصى والدانى وينتشر إلكترونيا فى ثوانى من خلال جماعات التواصل الإجتماعى، وإن كان بعضها لايزال يعتقد أن إخفاء رأسه فى الرمال تجعله غير مرئى على غرار "طاقية الإخفاء" التى كان يرتديها البطل فى فيلم يحمل نفس الإسم كنا نتابعه ونتمنى أن نجد تلك الطاقية بأى ثمن لكى نفعل مانريد بعيدا عن أعين الأهل والناس بعيدا عن الحرج أو التأنيب الذى كان ينالنا منه الشيئ الكثير، وأحيانا "عمال على بطال" فقد كان سوء الظن بنا مقدما فى كثير من الأحيان على حسن الظن .. مسرح كبير توزع فيه أدوار البطولة والأدوار الثانوية طبقا لحجم ووزن كل حزب ، والصالة تتسع لكل من يريد أن يرصد أحداث الدراما الإنسانية والسياسية التى تدور أمامه فى تتابع ينافس الأساطير الإغريقية فى عمقها ومآسيها .. أحيانا يكون هناك مخرج واحد يحتكر المسرح السياسى ويجيز ويمنع أى عرض يعرف أنه لن يرضى سيده فيتدخل لتعديل السيناريو ويعيد توزيع الأدوار لكى تخرج المسرحية بالشكل المطلوب الذى يخدم الشعارات المطروحة والتى تمجد النظام وتتغنى وتتفاخر بإنجازاته مثلما كان يفعل صفوت الشريف ، وأحيانا تفرض ضخامة الإنتاج إمكانات مخرج واحد فيتصدى لإتمام العمل أكثر من مخرج يحاولون العمل معا كفريق متجانس على الرغم من أنهم جاءوا من مدارس فنية مختلفة ولذلك يخرج العمل تجريديا يذكرنا بمسرحيات العبث التى لاتشترط وجود قصة ولا حبكة ولا تسلسل فى الأحداث وإنما مجرد حركة توهم المشاهد أن شيئا ما يحدث، وهذا مانشاهده على الساحة السياسية الآن.

الفساد السياسى فى رأيى بدأ بإفساد الأحزاب فى مصر وتحويلها لساحات للصراع - الذى انقلب داميا فى بعض الأحيان – بين أعضاء الحزب الواحد ، وبين الأحزاب بعضها البعض .. صفقات ووعود وتقسيم للكراسى على قدر الدور والحجم والوزن وقوة التأثير فى الشارع وصنع لزعامات توزع عليها "ماسكات" يضعونها على وجوهم فيبدون أضحم بكثير من حجمهم، ثم يأتى بعد ذلك سلاح المال فيحدث التزاوج بينه وبين السلطة .. عمليات تجميل "وتكبير" لتضاريس الجسم الحزبى فى مصر حتى يبدو مؤسسيا ديموقراطيا ليبراليا ذو آليات فى عملية اتخاذ القرار على غير الواقع فيكتمل بذلك ديكور الديموقراطية التى كان نظام حكم مبارك يتغنى بها ويروج لإسم مضحك أطلقه على نفسه وتبنته صحف النظام ظنا منها أن تكرار استخدامه سوف يقنع الناس فى مصر المحروسة أنهم يعيشون بحق "أزهى عصور الديموقراطية" .. إشتركت بعض الأحزاب ولا شك فى جريمة إفساد الحياة السياسية فى مصر، وبعضها لايزال يلعب نفس الدور الذى لايجيد غيره حتى أصبح لايحتاج إلى "ملقن" يسعفه إن نسى الكلام أو شكل الحركة على المسرح ، وكثرت الإئتلافات والتكتلات والحركات والفصائل بأسماء مختلفة تخفف بنزقها ورعونتها تركيز العمل السياسى فى مصر، وانتشر فلول الحزب الوطنى يحملون اللافتات الجديدة بأسماء تلك الأحزاب أو يتسللون إلى أحزاب قائمة يشترونها بأموالهم ويحتلون أماكن القيادة فيها لو استطاعوا .. لكل ذلك أقول أن تطهير الحياة السياسية فى مصر يبدأ بتطهير الأحزاب لنفسها أولا، وتصفية الفلول الذين نجحوا أو يسعون لتوجيه دفتها إلى موانى الوصول التى يريدون وينقلون ولاءهم بين الأحزاب والإئتلافات التى أصبحت تفوق الحصر بالبساطة التى ينتقلون بها بعض "الفكة" التى يحملونها من جيب لآخر.. وحتى يحدث ذلك التطهير الذاتى للأحزاب لابد أن نتوقف عن الكلام عن ديموقراطية حقيقية وحكم مدنى وانتخابات نزيهة ودستور يليق بمصر الحديثة.

No comments: