Wednesday, August 24, 2011

السيرك السياسى

فى عهد مبارك عشنا سيركا سياسيا من نوع فريد، فالسيرك المعتاد تتنوع فقراته ومن بينها فقرة المهرج الذى يظهر فى ملابس واسعة ويطلى وجهه بالمساحيق ويقوم بحركات ضاحكة نابعة من مواقف ساذجة تسبب له المشاكل التى يحاول حلها فيزيدها تعقيدا .. أما سيرك النظام السابق فلم يكن يقدم غير فقرة واحدة على امتداد السنوات الطوال التى حكم فيها مصر وحولها إلى ساحة مولد كبيرة يتزاحم الناس فيها على رؤية مايعرضه عليهم أرجوزات النظام الذين تتغير مواقعهم ولكن الفقرة التى يقدمونها واحدة لاتتغير. وذهب عهد مبارك وظننا أن السيرك السياسى قد ولى إلى غير رجعة لكى يحل محله عمل سياسى جاد تقوم به قوى سياسية واعية لها قضية تؤمن بها وأهداف عليا تسعى لتحقيقها لمصلحة الوطن حتى لو كان ذلك على حساب مصالح أيديولوجية أو شخصية قد تتعارض وتتداخل وتتصارع مع الهدف الأسمى من العمل السياسى .


صاحب السيرك فى عهد مبارك كان معروفا ، وكان من مصلحته أن يضم تحت جناحه كيانات أصغر تقنع بدور المهرجين يلهون الناس عن مطالبهم المشروعة فى حكم رشيد ومشاركة فى الحكم وديموقراطية حقة وليست مجرد واجهة لتجميل وجه النظام تخفى وراءها مسالخ ومعتقلات وسجون يزج فيها بكل من يجرؤ على المعارضة الحقيقية أو يعلو صوته على صوت الحزب الأوحد أو يلمع فى الشارع بما يهدد خطط التوريث وإعداد ولى عهد الأسرة الحاكمة لتولى الحكم خلفا للإمبراطور والتى كانت الشغل الشاغل لكل أجهزة الدولة .. المشكلة أن السيرك الأم حين أغلقت ثورة 25 يناير أبوابه لايزال له فروع منتشرة فى كل مكان بأسماء مستعارة يسمونها أحزابا وأحيانا تحالفات أو إئتلافات وتنتشر فى كل محافظات مصر بفرق مؤهلة من محترفى التهريج السياسى يروجون لبرامج متنوعة ومختلفة عما كان يقدمه "السيرك الوطنى" ويطمعون فى أن ينجذب إليهم البسطاء وحسنى النية من الناس الذين تداعب أحلامهم البيانات العنترية التى تصدر بمعدل بيان كل ساعة وتلهفهم على مشاهدة "شجيع السيما" وهو يقهر عشرات الأعداء فى حركات بهلوانية تنافس حركات "جاكى شان" فى السينما الأمريكية.

الأحزاب التى أقصدها هى التى يتنقل فيها "مطاريد" الحزب الوطنى من "جوعى" السلطة الذين يأكلون على كل الموائد لاولاء لهم إلا لمصالحهم يتهافتون على المناصب ليس بغرض الخدمة والصالح العام ولكن لزوم الوجاهة الإجتماعية ، يجيدون تدليك الذات ويحيطون بصاحب القرار يسمعونه مايحب ويوغروا صدره على كل صاحب كفاءة لأنه يمثل تهديدا لهم ويتحالفون معا فى كيان طحلبى متسلق يمنع عنه الشمس والهواء وينتهى به وبهم إلى قرارات طائشة غير مدروسة تطيح بهم معا بعد حين لتبدأ الدورة من جديد .. رؤساء الأحزاب الذين يقعون فى حبائل هؤلاء يخطئون الحساب ويظنون أنهم بكثرة عددهم تزداد "العزوة" التى تحيط بهم ومن ثم يزداد رصيدهم لدى الشارع بينما هم فى واقع الأمر مجرد أصفار على الشمال عديمة القيمة لايمثل مجموعها واحد صحيح .. مجرد حاملى شنط وكتبة أو "كدابين زفة" كان الأتراك يسمونهم "المهمندار" وهم من يسبق الوالى يعلن قدومه ويوسع له الطريق، وهم أناس لايملكون أى رؤية أو فكر، مصابون بمرض "نقص المناعة السياسية" الذى قضى على نظام مبارك وحزبه الأوحد الهش وأطاح بسدنته خلال أيام وانتشرت جحافلهم بمسميات مختلفة وأقنعة تخفى وجوها كريهة فى كل الأحزاب والكيانات الموجودة على الساحة الآن يبحثون عن دور ويخربون الحياة السياسية ينقلون فيروس المرض من خلال علاقات سياسية غير مشروعة ويعرضون صحة الوطن ومصالحه وأمنه لمخاطر جسيمة .. لقد حول نظام مبارك مصر كلها إلى "مشحتة" كبيرة بما فى ذلك المناصب السياسية وخلق طبقة من السياسيين يسمونهم فى الخارج "المتشردون" Carpet Baggers وهؤلاء هم مستحقى الصدقة السياسية ممن تمتلئ بهم كثير من الأحزاب الموجودة على الساحة الآن.

لاسبيل لتطهير الأحزاب من هؤلاء إلا بأن تتحول الأحزاب الكبرى فى مصر بشكل جاد وليس كلاما إلى أحزاب مؤسسية تعتمد على الإدارة الرشيدة وليس مجرد العمل التلقائى وردود الأفعال والقرارات الوقتية غير المدروسة .. إدارة الفرد ليس من العمل المؤسسى فى شيئ، والعمل المؤسسى لايعنى كثرة اللجان ولا التنظيمات ولا المكاتب المنتشرة فى طول البلاد وعرضها وإنما بتفعيل كل ذلك فى عمل منظم يدر عائدا مجتمعيا يسهم فى تنمية مصر ، ويستغل قدرات الكوادر المؤهلة صاحبة الرصيد الغنى من الخبرات القادرة على العطاء الوفية لوطن يستحقهم واستبعاد جحافل المرتزقة من تلك الأحزاب.. وأتساءل: إذا لم تكن الأحزاب فى مصر قد قامت من أجل عبد العاطى صائد الدبابات ومحمد العباسى الذى رفع العلم على خط بارليف بعد أن داسته أقدام جنود مصر وأحمد الشحات الذى لم يفكر لحظة فى تسلق واحد وعشرين طابقا لكى ينزل العلم الإسرائيلى ويعود به إلى الثوار لكى يحرقوه ويضع علم مصر بدلا منه .. أقول إذا لم تكن الأحزاب قد قامت لكى تستوعب أحلام هؤلاء ومطالبهم المشروعة فلماذا هى موجودة أصلا؟ إسألوا أيا من هؤلاء الأبطال البسطاء من أبناء مصر أى الأحزاب يحبون أن ينضموا إليه لو عرض عليهم ذلك وسوف يكون ردهم جميعا قاطعا: " ولا حزب " وفى ذلك أبلغ دليل على حجم وقيمة الأحزاب القائمة المنشغلة بالصراعات والتكالب على المناصب وطبول الدعاية التى أصبحت تمثل تلوثا سمعيا يحتاج أن يتوقف فورا.

No comments: