حين اندلعت شرارة الثورة كنت لازلت بمنزلى استعد للخروج إلى عملى، وإذا بى اسمع صوتا يتعالى كهدير الموج يأتى من بعيد ثم يقترب تدريجيا بهتافات مدوية تنادى بسقوط نظام مبارك .. حين أصبحت المظاهرة على بعد خطوات من منزلى كانت زوجتى بالشرفة المطلة على الشارع تبكى وتدعو للثوار بالنصر وبجانبها ابنتى التى كانت تفعل نفس النشيئ ولكنها بحاستها الصحفية صارت تلتقط صورا نادرة وتسجل مايحدث بالشارع من تلاحم وتوحد يتحولان إلى قوة جبارة تزيح أمامها أعتى النظم وأكثرها شراسة وجبروت وتشبثا بالسلطة وتفننا فى مظاهر الفساد والظلم والقهر لشعب لم يفهمه لا الحاكم ولا خدامه من "فلول" النظام .. أما أنا فوجدت نفسى أجرى على السلم دون انتظار للمصعد لكى أنضم للثوار فى مسيرتهم متوجها إلى التحرير أهتف حين يهتفون وأغنى حين يغنون .. عاد إلى شبابى وشحنت بطاقة هائلة مستمدة من طاقة الشباب حولى، طاقة تتجاوز طرق القياس التقليدية المعروفة تضيئ القلوب والنفوس بإشعاعات تملأ الفراغ الكونى كله بين السماء والأرض ، وخلال المسافة ما بين بيتى فى المعادى حتى ميدان التحرير عشت دراما إنسانية رهيبة لايمكن أن يصل إلى الإبداع فى صياغتها بأمهر كتاب السيناريو فى العالم إلى مستوى حركتها وتفاعلها وأحداثها .. أختار بعض المشاهد التى تعبر أبلغ تعبير عن المعدن الأصيل النادر للشعب الذى لم تفهمه عصابات عصر مبارك الذين كانوا يحكمون فى عالم خيالى من صنعهم داخل قصور وفلل وضياع وإقطاعيات داخل أسوار عالية تحجب صاحب الأرض وتحول بينه وبين وصول صوته إلى المغتصب الذى لايريد أن يسمع أو يرى إلا مايحب.. أفعل ذلك بغرض إبراز المفارقة الساخرة لمشاهد من محاكمة رأس النظام ورموزه رسمتها ريشة التاريخ بمهارة فائقة لكل من يريد أن يتعظ ويتعلم كيف تحكم الشعوب.
المفارقة الأولى أن النظام اعتمد فى محاولة كسر شوكة الشعب "وتدجينه" وترويضه على قبول الظلم بخلق دائرة جهنمية بحجم مصر كلها يتقاتل الناس فيها على لقمة العيش ويسعون بلا كلل لتوفيرها لهم ولمن يعولون ويقنعون بحد الكفاف منها فلا يعود لديهم وقت لكى يصبحوا تهديدا يهز عروش النظام وسدنته .. كانوا يعتقدون أن الناس يمكن أن تضحى بأى شيئ فى سبيل لقمة العيش فإذا بى أرى نفس هؤلاء الناس من أصحاب محال البقالة التى مررنا بها فى طريقنا إلى التحرير يلقون إلينا بزجاجات المياه المعبأة وقطع الحلوى والمأكولات المغلفة وهم يهتفون ويصفقون تعبيرا عن مساندتهم ومؤزارتهم للثورة وشحنا لهمم الثوار فى أول استفتاء شعبى لحظى فى التاريخ.. مطالب الثوار إذن تتجاوز الجرى بلا توقف وراء لقمة العيش وتسمو عليها، بل إن عجوزا تبيع الفاكهة على عربة يساعدها ابنها أخذت تزغرد بينما إبنها يلقى إلى بحباب اليوسفى تعبيرا عن فرحه ومشاركته للثوار .. هؤلاء أناس بسطاء ضحوا بلقمة العيش وتحرروا من الخوف من عدم توافرها وأصبحوا ثوارا تعنيهم مصر وليس حياتهم الخاصة .. فى المقابل – ومهما قيل عن المعاملات الخاصة لرأس النظام وذيوله – لم يعد لهؤلاء من أمل سوى "العيش" والإفلات من العقاب والإستعداد للرضى بأقل القليل لو نجح "بهلوانات" القوانين بدلا من "ترزية أو إسكافية" القوانين الذين كانوا يعتمدون عليهم فى إنفاذ مشيئتهم خلف واجهة قانونية يحتمون بها فى تخفيف الحكم عليهم أو تبرأتهم من بعض التهم الموجه إليهم.
المفارقة الثانية كانت حين مررنا بقسم بوليس نهتف "سلمية .. سلمية" فإذا بالضباط والجنود يصطفون أمام القسم يصفقون لنا ويشيرون بأصابعهم بعلامة النصر وقد علت وجوههم ابتسامات حقيقية نابعة من القلب .. نفس الضباط والجنود الذين كانوا "بالأمر" يستخدمون أدوات قمع وإرهاب وتخويف لنفس المواطنين الذين يصفقون لهم اليوم، وهم أنفسهم كذلك من يضعون القيود الحديدية فى يد الظالم فى رحلات متكررة للتحقيق معهم داخل سيارات الشرطة التى كانت تستخدم "لتعبئة" كل من يتجرأ على رفع صوته فى وجه النظام وشحنه إلى مصيره المجهول فى سجون ومعتقلات النظام التى كانت محجوزة فقط للشعب إلى أن تبدل الحال وأصبح الظلمة يزاحمون الشعب فى سجونه .. لايهم الآن إذا كانت زنازين السادة مكيفة أو أكثر اتساعا، أو أن بعض أصحاب الأيادى والذمم المرتعشة لايزالون يعاملونهم بتوقير واحترام لايستحقونه أو يخافون من وضع القيود الحديدة فى أيديهم عند نقلهم للمحاكمة .. المهم أن السجان قد أصبح سجينا خلف القضبان يحميه المسجون الذى ذاق مرارة الظلم لثلاثة عقود ومع ذلك يوفر لسجانه معاملة أفضل ومحاكمة عادلة.. أما القفص فكان قمة الدراما حيث يرقد رأس النظام الذى قدم صحفيا للمحاكمة وكاد يحبسه حين تجرأ وتحدث عن صحته لولا قضاء مصر الشامخ .. رأس النظام الآن "يتاجر" بتدهور صحته – ربما بنصيحة ممن ينالهم جزء من الغنائم – لكى يفلت من العقاب، وسبحان مغير الأحوال.
No comments:
Post a Comment