بينى وبين الإدارة قصة حب حقيقى
من أول نظرة امتدت إلى مايزيد عن النصف قرن وامتزج فيها الحب بالعذاب .. ولعل
السبب فى ذلك أنى حين التحقت بأول عمل بعد تخرجى فى الجامعة فى الستينيات من القرن
الماضى وليس لدى أى فكرة حقيقية عن فنون التطبيق فى علم الإدارة ، شاء حظى أن أعمل
مع مديرين محترفين فى أدين لهم بالفضل مرتين : مرة لأنهم قربونى منهم أنهل من
علمهم وتجاربهم ، ومرة لأنهم استطاعوا بحسهم وخبرة السنين أن يتنبأوا لى بمستقبل
واعد ومن ثم لم يبخلوا على بالتعليم وبإتاحة فرص المشاركة فى اتخاذ القرارات والإستثمار
فى تحسين قدراتى وتقديم الدعم والمساندة اللازمين لكى تنمو تلك القدرات .. أتيح لى
مبكرا أن أخوض معترك الحياة من الباب الملكى للإدارة إلى جانب عمالقة جمعوا بين
العلم وفن التطبيق .. عمالقة كشافين للمواهب ، يؤمنون بالعمل الجماعى ، وبأن
المدير صاحب رسالة يؤمن بها ويسعى لتحقيقها بشتى الوسائل مستغلا الموارد المتاحة
لديه ، وأنه لن يستطيع بحال أن يحقق
رسالته فى الحياة مالم يكن قدوة لمرءوسيه يفعل مايطالبهم به ويتجنب كل ماينهاهم
عنه.
ولعل ماساعدنى على أن أكتسب بسرعة
ثقة رؤسائى أن نشأتى الأولى قد أتاحت لى فى مراحل التعليم المختلفة بيئة صالحة لأرض
خصبة تستقبل البذور وتحتضنها لكى تنمو وتزدهر بالرعاية والحماية التى يقدمها قامات
شامخة من الأساتذة العظام .. بيئة ليس بينها وبين " صوبات التعليم " التى
نشاهدها حولنا اليوم أى علاقة .. كنا نقوم ببحوث بسيطة عن موضوعات تهم مجتماعتنا ،
وكنا نحصد الدرجات حين نتطوع للعمل العام والخدمة المجتمعية ، وكنا ننظم ونشارك فى
المناسبات العامة فى معاهدنا العلمية ، وكانت الأنشطة الرياضية والإجتماعية
والثقافية جزءا أصيلا من العملية
التعليمية .. لم يكن المقرر الدراسى هو محور العلاقة بين الطالب والمدرسة أو
الجامعة ، وإنما اللهفة على الإستزادة من خبرة السنين التى كان يمثلها رموز كنا
نتسابق إلى التقرب منها بالإجتهاد والتميز العلمى ، ونتوق إلى تقليدها لعلنا نصل
إلى بعض ماوصلوا إليه .
وحينما أراد الله أن تسير حياتى
العملية جنبا إلى جنب مع حياتى الأكاديمية لم أكن أعرف أنه سبحانه وتعالى قد قدر
لى أن أكون واحدا من الذين قدر لهم أن يحملوا رسالة تقريب العلم إلى الواقع العملى
ويساعدون مريديه على أن يرفعوا رايات النصر على إنجازات يحققونها بدلا من مجرد
الكلام عن نظريات ورؤى تظل أحلاما تدغدغ المشاعر وتحلق بصاحبها بعيدا عن أرض
الواقع الذى خلق العلم أساسا لكى يخدمه .. لم أكن أعلم فى سنى حياتى المبكرة أن ذلك سوف يكون " ميزة تنافسية " ترقى
إلى مستوى المنهج الذى يمكن تبنيه لخدمة وطننا العربى ، ونظرية أسميها " الإدارة
بالواقع " أعمل الآن على استكمالها ، أضع فيها خبرة السنين مع منهج العلم
لرسم خارطة طريق تحدد احتياجات مجتمعاتنا للتغيير تلبية للإيقاع المتسارع حولنا
والضغوط التى يمثلها متطلبات إحتلالنا للمكان المرموق الذى نستحقه فى المجتمع
الدولى .
ولأن مراحل التكوين الأولى
لجيلى قد ارتبطت بالتعليم والقائمين عليه فقد تكون لدينا على مر السنين اعتقاد
راسخ بأن نقطة البداية فى تقدم الدول هى الإهتمام بالتعليم وجودته وقدرته على
تخريج مواطن " مشارك " يعى مشاكل وطنه وطموحاته الشخصية ، وليس "
متفرجا " يتسم بالأنانية ، لايعنيه من أمر الوطن سوى الفرص المتاحة لكى يحقق طموحاته الشخصية ، أو أن يكون
مشاركا بالقدر الذى يتيح له مكاسبا ذاتية تعود عليه وحده بالنفع .. التعليم الجيد
لابد وأن يفرز مواطنون لايجدون تضاربا بين طموحات أوطانهم وطموحاتهم الشخصية ، بل
إنهم يشعرون دوما أن فى أعناقهم دينا لأوطانهم واجب السداد ويكيفون حياتهم على
سداد هذا الدين فى كل مايفعلون يتسلحون بالمعرفة ويوظفونها لتعليم غيرهم ويخوضون
معارك التنمية والتطوير والتقدم فى الصفوف الأولى ويفرحون بالإنجازات العلمية التى
تحققها بلادهم ، ولايشبعون من تحقيق المزيد .
كانت تلك الدوافع وراء كتابى
الأول “Management Portraits”الذى نشرته بالخارج باللغة الإنجليزية ، وكان موجها
بالدرجة الأولى إلى المهتمين بعلم الإدارة التطبيقى على مواقع العمل المختلفة ،
واحتوى على خلاصة تجاربى فى تلك المرحلة فى العمل فى قارات ثلاثة فى شركات تختلف فى
تخصصاتها وأحجامها وثقافاتها من خلال عرضى لمواقف واحتكاكات حقيقية عشتها ونماذج
واقعية لشخصيات قابلتها أو عملت معها وتحليل تلك المواقف ودوافعها من وجهة نظر علم
الإدارة .. نظرة رومانسية بأسلوب أردت ألا يكون تقليديا يفسره قصة الحب العنيفة
التى تتملكنى والتى تحولت إلى أسلوب حياه وطبيعة ثانية تميز شخصية المحب المتيم
الذى هو أنا ، وتكشف سر المحبوبة التى تفيض دلالا وتيها وهى الإدارة .. الدوافع
التى دفعتنى لتأليف الكتاب الأول هى نفس الدوافع وراء هذا الكتاب والذى آثرت أن
يتناول التخطيط الإستراتيجى للمؤسسات التعليمية بوجه عام والتعليم العالى بوجه خاص
باعتباره المرحلة الأخيرة لطلاب يخرجون إلى معترك الحياة مسلحين بالحد الأدنى من
المعارف وينوون استغلالها فى تلبية احتياجات مجتمعاتهم .. التعليم الجيد "
حضانة " ترعى المواهب وتصقل العقل وتصنع الخبرة وتحفز على التفكير والإبداع ،
وطبيعى أن أهتم بها مع غيرى ونعتبرها قاعدة لإطلاق الصواريخ " المعرفية
" التى تستهدف العقول والتى – لو أحسن إعدادها – لفاقت فى تأثيرها أقوى
الرؤوس النووية التى تحرص على اقتنائها الدول .. الفرق أن التعليم يبنى ولايهدم ،
ويعمر ولايدمر، ويستثمر فى المستقبل لصالح كل البشرفى كل مكان بدلا من أن يدمر
معظم البشر لصالح فئة من الناس .
No comments:
Post a Comment